وكأننا نعيش أواخر سنوات الحرب الأهلية في ثمانينات القرن الماضي، بأدقّ تفاصيلها. فما سمعنا عنه آنذاك من أخبار حول مرحلة انهيار الليرة اللبنانية، نعيشه اليوم على شاكلة قدرة شرائية تآكل خمسين في المئة منها، ورواتب موظفين تفقد نحو الثمانين في المئة من قيمتها.
المشهد تبدّل اليوم، فالظروف والشخصيات السياسية والاقتصادية، والأحوال الداخلية والإقليمية والعالمية تغيّرت. نسير اليوم في نفق مجهول، حيث يجب أن تكون الأولوية لتحسين أمور المواطنين. فوضعهم المعيشي مرتبط بشكل جذري بتدهور العملة الوطنية الذي يفاقم الأوضاع ككلّ في ظلّ الاستعار الجنوني لأسعار السلع الاستهلاكية.
إقرأ أيضاً: سعر الصرف الرسمي 3500: بمن ينفجر أول الألغام؟
لقد أقرّت الحكومة خطتها المالية والاقتصادية، بالإجماع، مع استثناء البند المتعلّق بالتحرير التدريجي لسعر الصرف الرسمي. ومع اعتماد سعر 3500 ليرة للدولار سعراً افتراضياً للصرف، فهي اعتمدت تحريراً تدريجياً للسعر على مدار 5 سنوات، ابتداء من تحديد سعر الليرة أمام الدولار عند 3500 عام 2020، ثم 3684 ليرة عام 2021، ثم 3878 ليرة عام 2022، ثم 4082 ليرة عام 2023، وأخيراً 4279 ليرة في العام 2024.
فهل الوقت مناسب لتحرير سعر الصرف؟ وما هي إيجابيات هذا الإجراء وسيئاته؟
يقول الخبير الاقتصادي الدكتور منير راشد، في تصريح لـ”أساس” إن لبنان “كان يعتمد منذ الاستقلال سعر صرف متحرّكاً وليس مثبتاً مقابل عملة معيّنة، وهو من الدول القليلة التي اعتمدت هذا المسار، علماً أن السوق هي العنصر الأساسي المحرّك لسعر صرف العملة المحلية لقاء العملة الأجنبية أي الدولار. وكان تدخّل المصرف المركزي في حدود ضيقة نسبياً. ونمت الصناعة المحلية، ولم يكن هنالك معدلات بطالة نافرة كما اليوم أو حتى عجز في ميزان المدفوعات، ما يعني أن حرية سعر الصرف يومذاك، منحت للاقتصاد توازنه وأهميته، وسمحت له بامتصاص الصدمات على عكس ما يحصل اليوم”. ويلفت إلى أنّ “هذه إحدى صفات الاقتصاد الحرّ التي ساعدت في تسمية لبنان سويسرا الشرق، ونما الاقتصاد يومها بطريقة سريعة، معدّلات النمو فيه، وفرص العمل، وحتى الحدّ الأدنى للأجور، كانت تضاهي الدول الأوروبية”.
ويتابع راشد شرحه قائلاً: “إنّ الحرب الأهلية أرخت بظلالها على سعر صرف العملة، فتدهور بشكل دراماتيكي، كما يحصل اليوم. وكما هو معروف، فإن أيّ تثبيت أو محافظة على استقرار سعر صرف العملة الوطنية يحتاج إلى موازنة متوازنة خالية من العجوزات. لكن حاجة الدولة للأموال خلال الحرب الأهلية، وعجزها عن تحصيل أيّ إيرادات، دفع بها إلى طبع النقد الوطني، ما أدّى إلى تفوّق عرض الليرة أمام الدولار الأجنبي. وهذا الأمر تسبّب في انخفاض سريع جداً لسعر الصرف”.
كلّ هذه العوامل أدت الى تباطؤ النمو الاقتصادي، ما سيتسبّب من دون شك بارتفاع معدّلات البطالة وزيادة مستويات الفقر
حكومة الرئيس الشهيد رفيق الحريري، كانت هي التي اتّخذت قرار تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية للمرة الأولى عام 1997، وهو النظام المعتمد في دول الخليج العربي. وفي هذه الآلية، أي مع ربط سعر صرف الليرة بالدولار، بات لزاماً على المصرف المركزي التدخل للحفاظ على ثبات سعر الصرف هذا. الحريري الأب في الحكم ساهم، إضافة إلى عناصر أخرى كرفع سعر الفائدة إلى حدود تراوحت بين 20 في المئة و30 في المئة لفترة قصيرة، في إيداع الأموال في المصارف التجارية اللبنانية، وارتفاع لافت لنسب التحويلات. هذا ما عزّز ثبات سعر صرف الليرة لفترة من الزمن، رافقه عجز في الحساب الجاري لا سيما في الميزان التجاري: “تثبيت سعر الصرف أدّى إلى ارتفاع قيمة الليرة بحيث أصبح الاقتصاد اللبناني يخسر قدرته على المنافسة من دون أن يتمكّن من الاستفادة من هذا التثبيت”. بكلام آخر، فإن المرحلة التي أشار إليها راشد شملت تثبيتاً لسعر الصرف، رافقه عجز مزدوج في الحساب الجاري وفي المالية العامة، بحيث بدا أن ميزان المدفوعات يسجّل عجوزات متراكمة، توازياً مع فوائد عالية لاستقطاب أموال وودائع من الخارج. كلّ ذلك “للحفاظ على ثبات سعر صرف الليرة وتمويل مالية الدولة، وتأمين حاجة لبنان المرتفعة من الاستيراد”. تثبيت سعر الصرف من الأسباب الرئيسية لارتفاع الدين العام، ورفع معدلات الفوائد التي كانت تعتمد في التثبيت قوّض النشاط الاقتصادي، لأنه رفع تكلفة الاقتراض على الشركات والأفراد، وقلّص طموحهم في إقامة مشاريع جديدة كان يمكن أن تساهم في خلق وظائف جديدة يحتاج إليها سوق العمل وتوسيع حجم الاقتصاد، كونهم آثروا إيداع أموالهم في المصارف طمعاً بالفوائد المرتفعة بدلاً من المخاطرة في الاستثمار في مشاريع إنتاجية: “هذا الأمر دفع مصرف لبنان إلى التدخل في أغلب الأحيان، ووضع سياسات إقراض مدعومة بسعر فائدة مخفضة، ولكنه في المقابل هذا الأمر لا يؤمّن الاستدامة”.
كلّ هذه العوامل أدت الى تباطؤ النمو الاقتصادي، ما سيتسبّب من دون شك بارتفاع معدلات البطالة وزيادة مستويات الفقر.
لا ينفي راشد استفادة المجتمع اللبناني من ثبات سعر صرف الليرة في الفترة السابقة، إذ إن هذا الأمر عزّز ثبات سعر المواد المستوردة لا سيما الاستهلاكية منها والغذائية، ولكن في المقلب الآخر فان هذه المستوردات، وسعرها المقبول، شكّلت نوعاً من المضاربة على المنتجات المحلية في مجالات عديدة.
ويرى أن السعر المتحرّك، كي يعود بالنفع على الاقتصاد الوطني “يجب أن يكون مسحوباً بسياسة مالية منضبطة”. راشد إذ توقّع استعار سعر صرف الدولار في السوق الموازية إلى ما فوق 4000 ليرة، يرى أن لهذا الأمر إيجابية تتمثّل بخفض العجز في الحساب الجاري من 12 مليار دولار في 2019 إلى 3 مليارات دولار في العام 2020، وبتعزيز الإقبال على السلع المحلية كسلع بديلة عن تلك المستوردة. ويختم راشد أن من شأن تحرير سعر الصرف تخفيف العجز والضغط على ميزان المدفوعات، وتقليص الحاجة الملحة إلى العملة الخضراء.