اعتاد الناس على سماع مقولة إنّ “الثورة تأكل نفسها”، فتتلاشى وتفقد زخمها مع تقدّمها في العمر. ولعلّ هذا ما راهنت عليه السلطةُ في لبنان، خاصة بعد جائحة كورونا وما قدّمته لها من فرصةٍ للحجر على الشعب سمحت بإزالة الاعتصامات وفتح الساحات ومنع المظاهرات، فراقت الحالُ للأحزاب الحاكمة وراحت تتصرّف كأنّ ثورة 17 تشرين لم تكن، وكأنّ من واجب المواطنين التأقلم مع الكارثة المالية والاقتصادية والاجتماعية بدون أن يعاودهم حلمُ الثورة التي شطبوا مطالبها ودفنوها في ساحات الشهداء، ورياض الصلح، والنور، وإيليا، والعلم.
لكنّ الثورة خالفت التوقعات، وبدل أن تتآكل، أظهرت قدرتها على تجديد نفسها، وتطوير آليات نشاطها، وأن تستخلص الدروس من مرحلة ما قبل كورونا، سواء لجهة التحصين من عمليات اختراقها من السلطة وأحزابها والمتسلّقين على موجاتها، أو لجهة الحفاظ على شموليتها وهويتها الوطنية وعلى مكانتها في نظر المجتمع اللبناني والدولي، وعلى أهدافها في التغيير السياسي، وفرض قواعد الشفافية والعدالة والمواطنة.
إقرأ أيضاً: ثورة “الجوع والكرامة” آتية من الشمال…
تحرّكت المناطق بتنوّعها الجغرافي والديني فاحتفظت الثورةُ بنسيجها الوطني، وامتدّت فعالياتـُها من طرابلس إلى الضبية فبيروت، لتكمل جنوباً نحو صيدا وصور، ولتلتهب في البقاع، بين تعلبايا والمرج وبر الياس ومجدل عنجر، مع احتفاظ طرابلس بنقطة التحرّك المطلِق للشرارة، والتي أعطت الاندفاعة الأولى والزخم الأكبر، وهي التي دوماً تكون مصدر الوحي الشعبي، ونبع العناد في احتلال الشوارع، فتلحق بها المناطق الأخرى بالتحرّك.
بات واضحاً أنّ مستوى الاعتراض في المدن والبلدات السنيّة وتيرته أعلى من المناطق الأخرى، وربما هذا ما يؤدّي إلى الصدامات التي وقعت في طرابلس وتعلبايا والمرج بين المتظاهرين والجيش. والأخير يبدو أنه يتلقّى أوامر القمع من حكومةٍ جاءت باسم “الاستجابة لمطالب الثورة”.
يستحقّ الموقف في الحواضر السنيّة الوقوف عنده، حيث يظهر أنّ الاعتراض هو في الحقيقة اعتراضٌ مزدوِج الاتجاه:
ــ رفضُ سياسات حكومة الرئيس حسان دياب وعجزها عن إيجاد الحلول السريعة والناجعة للكارثة الاقتصادية.
ــ ورفضُ محاولاتِ تيار المستقبل التسلّل تحت جناح الثورة لدفع الشارع نحو أهدافه الخاصة القائمة على التصعيد، ثمّ المساومة للوصول إلى صفقةٍ جديدة تعيده إلى الحكم، بعد أن أدرك العامةُ والخاصةُ أن ما يطرحه هو خيارٌ انتحاريّ واصطدامٌ جديد بالحائط.
إذا نظرنا إلى راهن الحركة الشعبية الآن، نجد أن عمودها الفقري هو من الفقراء الذين يعتبرون أنفسهم في ثورة جوع ضربهم حتّى النخاع، ويفضّلون الموت بالوباء أشرف من الموت جوعاً، إضافة إلى المجموعات الثورية الصلبة التي صمدت في وجه السلطة وفي وجه كورونا.
لكنّ الفئة الأكبر من الشعب هي تلك التي تقف راهناً على حافة الثورة، وهي من كانت تسمّى “الطبقة الوسطى”، صاحبة الودائع المفقودة في المصارف. هذه الفئة الحائرةُ قلوبُها والزائغةُ أبصارُها والتائهة عقولُها، بانتظار الإفاقة من الصدمة وتلمّس حقيقة أنّها فقدت مدّخراتها وجنى أعمارها، وهي لن تملك سوى طريق الثورة والمواجهة لمحاولة إيجاد توازنٍ معيشيّ واجتماعي جديد بعد الانهيار.
الأكيد أنّنا بتنا أمام حتمية تجديد الثورة لذاتها، لكن في مواجهة ظروفٍ أصعب وأقسى وفي مرحلة صدامٍ إقليميّ يؤكّد أنّ لبنان رهينة لدى “حزب الله” المصمّم على الإطباق على ما تبقّى من الكيان اللبناني سياسياً ومالياً. لكنّه في الوقت نفسه يهدّد بانفلات الأوضاع وباتجاه بقية اللبنانيين للمفاصلة معه في المصير النهائي للوطن.
الواضح أنّ قلب الثورة يحتفظ بالنبض بالحياة والحيوية الكافية لإعادة إنتاج مسارٍ جديد في مواجهة السلطة التي فوجئت بأن الناشطين تأقلموا مع تدابير مواجهة وباء كورونا، وأعطوا نموذجاً للالتزام بالقانون في الوقت نفسه
هذا الواقع يهجس به أبناء طرابلس والبقاع وبيروت وصيدا، كما أبناء المناطق الأخرى. وأمام الجوع بات أهل الثورة قادرين على تمحيص صفوفهم بمنسوبٍ مرتفع من الكفاءة بعد أن تخلّصوا من موجات الانفعال العاطفية، فتقلّصت قدرةُ بعض الأجهزة على اختراقهم وعلى تلغيم صفوفهم بمجموعاتٍ تدين لها بالولاء.
فقد بات صعباً أن تكرّر الأجهزة ما فعلته في ساحة النور خلال المرحلة السابقة على كورونا، عندما تحوّلت المنصّةُ إلى نقطة تشويه لعروس الثورة وأيقونتها بتظهير مجموعةٍ شكّلت النقيض لمشهد الساحة الجامع. فتجربةُ ساحة النور فضحت المجموعات المخترقة من بعض الأجهزة أو من التيارات السياسية التي حاولت ركوب الموجة الثانية من الثورة.
الواضح أنّ قلب الثورة يحتفظ بالنبض بالحياة والحيوية الكافية لإعادة إنتاج مسارٍ جديد في مواجهة السلطة التي فوجئت بأن الناشطين تأقلموا مع تدابير مواجهة وباء كورونا، وأعطوا نموذجاً للالتزام بالقانون في الوقت نفسه، فاعتمدوا سياسة التباعد الاجتماعي، والتزموا بأرقام السيارات بحسب الأيام المسموح لها بالسير بمفردها ومزدوجها، مقدّمين النموذج الإيجابي والمتمسّك بالحق في التظاهر والتعبير.
ورغم تراجع الاهتمام الدولي بلبنان عموماً، إلاّ أنّ الثورة بقيت حاضرة في التوجّه الدولي من عواصم القرار نحو السلطة الحاكمة، سواء كان الموقف أميركياً أو أوروبياً، وهذا يثبت أن ما أنجزه الشعب اللبناني في ثورة 17 تشرين لم تمحه مناوراتُ الأحزابِ المتسلّطة، ولم تشطبه محاولات القمع والإلغاء، بل بقيت الحركة الشعبية عنصرَ توازنٍ معنوي وسياسيّ غير قابلٍ للشطب.