سيرة عائلة وحاكم (2/2): قصر سلامة الأصفر

مدة القراءة 6 د


لنرجع إلى عائلة الحاكم.

صودف عندما وقعت الحرب العالمية الثانية أن الأخوة سلامة أرسلوا حمولة كبيرة من إطارات السيارات بمختلف الأحجام إلى مرفأ بيروت، وأغرقت في العمليات الحربية سفينة أخرى لشركة منافسة كانت متوجهة هي أيضاً إلى المرفأ اللبناني، فنفدت الدواليب في لبنان واشتدت حاجة الفرنسيين جيشاً ومدنيين إليها. “فتحت” مع الأخوة سلامة، وقيل إنّ حمولة الدواليب تلك حقّقت أرباحاً طائلة وسمحت لهم بتوسيع شركتهم، والاستحصال على وكالات حوالي ألف ماركة عالمية في دول أفريقية عدّة. صارت بحسب كتاب “الينابيع”، “الشركة الثالثة شهرةً وعملاً على كلّ الأراضي الأفريقية في التراتبية والتنافس، فاحتاجت بالتالي إلى مئات الموظفين والعمّال، استقدمت معظمهم من لبنان لإدارة العمل الضخم، كما استقدمت محاسبين من ألمانيا”.

بعد الحرب العالمية صار آل سلامة يتنقّلون بين لبنان وأفريقيا. نفّذوا وصيّة والدهم باز بشراء مساحات واسعة من الأراضي في مزرعة كفرذبيان – انتقاماً ربما لشرف العائلة المهدور زمن جدّهم الياس – استصلحوها وحوّلوها بساتين تفاح وأشجار مثمرة أخرى. صارت المزحة المتداولة هناك “أنا وبيت باز سلامة عندنا عشرة آلاف صندوق تفاح سنوياً”. وفي إنطلياس – النقاش اشتروا بساتين ليمون ومساحات، وفي منطقة المتحف اشتروا وعمّروا بنايات. أما بيتهم العائلي الذي جعلوه على النمط اللبناني القديم فكان حصّة أخيهم يوسف الذي لم يهاجر معهم بل دخل الكهنوت ورقّاه البطريرك الراحل نصرالله صفير إلى مرتبة مطران وسلّمه أبرشية حلب. لاحقاً وهب البيت لحركة “التجدّد بالروح القديس – الكاريزماتيك”، واستكمل بناء بيت راحة للكهنة المسنّين في معاد – جبيل حيث دُفن وأقيم له تمثال نصفي. سيكون للمطران سلامة دور في تزكية اسم ابن أخيه رياض لدى البطريرك صفير، عندما اقترح الرئيس رفيق الحريري تعيينه حاكماً للمصرف المركزي.

إقرأ أيضاً: سيرة عائلة وحاكم (2/1): من الأقدام الحافية إلى الثروة

يروي رياض سلامة المولود عام 1950 أنّه عاش طفولته في منزل جده باز في إنطلياس لأنّ والديه توفيق ورينيه رومانوس كانا دائمي السفر بين لبنان وأفريقيا. درس في مدرسة الجمهور للآباء اليسوعيين والتحق بالجامعة الأميركية في بيروت ونال إجازة في الاقتصاد. تقرأ في ويكيبيديا أنه “اكتسب بين عامي 1973 و1985 خبرة واسعة في شركة ميريل لينش، متنقّلاً بين مكاتب بيروت وباريس، الأمر الذي أدى إلى تعيينه في 1985 نائبا للرئيس ومستشاراً مالياً. وقد شغل هذا المنصب حتى تعيينه حاكماً لمصرف لبنان في سنة 1993”. وسيُنقل عنه مراراً أنّ راتبه في الشركة العالمية كان عشرة أضعاف راتبه في الحاكمية اللبنانية.

في النصف الثاني من الستينيات بنى عمّ رياض سلامة، طوبيا سلامة، وزوجته حلا أبو جودة، القصر الأصفر الذي أكله العشب في إنطلياس. يروي عارفوه إنه كان يهدي كلّ ابنة من بناته الست عند زواجها تاجاً من الماس بقيمة 20 ألف ليرة، كانت تشتري بناية تلك الأيام. وكلّ أزواجهنّ من علية القوم: إيلان جورج الأشقر، رئيس بلدية برمانا الراحل ووالد بيار رئيسها الحالي. جميلة الدكتور إدوار باروكي. ليلى إميل بستاني أحد أصحاب “البورتميليو”. سعاد زوجة الدكتور ميشال شاكر صاحب “صيدلية شاكر” التاريخية في إنطلياس. أمال الأمير حارس شهاب، الرئيس السابق للرابطة المارونية وأمين عام اللجنة الوطنية المسيحية – الإسلامية في لبنان. نهاد هنري خوري، كان من كبار التجار. ست عائلات لقصر واحد ونحو 15 ألف متر حوله في أحد أهم المواقع على مشارف بيروت الشمالية. قد يكون هذا كافياً لتفسير ما حصل بعد رحيل صاحب القصر خلال الحرب، حين لم تأتِ إلا عائلته وتولّت بلدية إنطلياس النقاش مراسم الدفن، خصوصاً أن عائلة سلامة ما كانت تزور ولا تُزار، على ما يروي جيرانها.  

ولكن كيف تعرّف الرئيس رفيق الحريري إلى رياض سلامة؟

في شقة فخمة من حي السراسقة في الأشرفية، تقع في الطبقة 17 على الأرجح، وتطلّ على المرفأ وأجزاء واسعة من بيروت، أذكر حديثاً قبل سنوات مع السيد مكرم ميشال زكّور أخبرني على هامشه أنّ الرئيس رفيق الحريري زاره في لندن بعيد انتهاء الحرب، وعرض عليه أن يعود إلى بيروت حاكماً لمصرف لبنان.

لم يفاجأ الرئيس رفيق الحريري بعدم تجاوب مكرم ميشال زكُّور مع اقتراحه العودة إلى لبنان وحساباته الصغيرة لكن زكور اقترح عليه اسم شاب لبناني لامع من مساعديه: رياض سلامة

قلّة من اللبنانيين تعرف من هو مكرم زكّور الذي عاش معظم حياته متنقّلاَ بين أميركا وعواصم أوروبا. كان والده ميشال زكّور، المولود في الشياح عام 1896، صاحب جريدة “المعرض” من الآباء المؤسسين للصحافة اللبنانية وأوّل وزير خارجية للبنان. تولّى وزارة الداخلية، ونال أكبر عدد من الأصوات التي أدخلته البرلمان في انتخابات 1934، وكان مع زميليه النائبين كميل شمعون وفريد الخازن أول المنادين بتطبيق الدستور، قبل أن تتشكّل الكتلة الدستورية، ويترأسها الرئيس بشارة الخوري، بانضمام النوّاب حميد فرنجية ومجيد إرسلان وصبري حماده وعبود عبد الرزاق إليهم. كانت لميشال زكور صولات وجولات مع المفوّضين السامين في “المعرض” وأمام القضاء، بسبب مناداته بالدستور واستقلال الجمهورية. وكان الأقوى بعد بشارة الخوري والمستقبل كان واعداً أمامه، لكنّه توفي شاباً عام 1937 بذبحة قلبية عن عمر 41 عاماً، فلم يعرفه ابنه الأصغر مكرم، حاله حال النائب نديم الجميّل حالياً. قبل أن يتقاعد ويعود إلى لبنان، أنشأ مؤسسة وجائزة ثقافية على اسم ميشال زكور وأعاد مع غسان تويني طبع أعداد منتقاة من “المعرض” في مجلّدين حفظاً للذاكرة ونضالات جيل.

عندما قصد الرئيس رفيق الحريري مكرم زكّور في لندن ليقدّم إليه عرضه، كان يعرف أن الرئيس التنفيذي لشركة “ميريل لينش” في الشرق الأوسط، والمدير في الإدارة المركزية في الولايات المتحدة وابن ميشال زكور يدير ثروات ومحافظ هائلة لقادة وأثرياء في المملكة العربية السعودية وسائر دول الخليج والعالم العربي، أبرزهم العاهل الراحل فهد بن عبد العزيز. لذلك لم يفاجأ بعدم تجاوب زكور مع اقتراح العودة إلى لبنان وحساباته الصغيرة. لكن زكور اقترح عليه اسم شاب لبناني لامع من مساعديه: رياض سلامة. زكّاه ورتّب لاحقاً لقاء تعارف بينهما. قيل – وتعذّر التأكد – إنّ رياض سلامة كان يدير آنذاك ثروة طائلة في عهدة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، تسبّب سحبها من مصارف لبنان بعد انسحاب “منظمة التحرير الفلسطينية” في 1983 بهزّات ارتدادية في القطاع المالي خلال الثمانينيات، تشبه إلى حدٍّ ما يعيشه لبنان اليوم.  

هكذا عمل مع الرئيس رفيق الحريري، إلى أن جلس عام 1993 تحت صور حكام المصرف المركزي الذين سبقوه: فيليب تقلا، وإلياس سركيس، وميشال خوري (مرتين)، وإدمون نعيم. وجدّدوا له في 1999 – 2005 – 2011 – 2017، ليصبح بعد 27 عاماً متواصلة، الأطول إقامة عالمياً في منصبه بحاكمية مصرف مركزي على الإطلاق.

أما القصر الأصفر المتهاوي، فعلى غرار لبنان، ينتظر تحسّن الأوضاع ليتقدّم من يشتري بالسعر المناسب.

 

مواضيع ذات صلة

هوكستين موفد ترامب… فهل يضغط لإنجاز الاتّفاق؟

كثيرٌ من الضبابية يحيط بمصير المفاوضات التي قادها آموس هوكستين بين لبنان وإسرائيل، أو بالأحرى بين “الحزب” وإسرئيل، عبر رئيس مجلس النواب نبيه برّي. التفاؤل…

الاتّفاق Done: إعلانه خلال أيّام.. أو أسابيع؟

بين واشنطن وتل أبيب وبيروت أصبحت شروط الاتّفاق معروفة، ولا ينقصها سوى لمسات أخيرة قد تستلزم يوماً واحداً، وقد تطول لأسابيع، أربعة ربّما. لكن ما…

“اليوم التّالي” مطعّم بنكهة سعوديّة؟

لم يعد خافياً ارتفاع منسوب اهتمام المملكة العربية السعودية بالملفّ اللبناني. باتت المؤشّرات كثيرة، وتشي بأنّ مرحلة جديدة ستطبع العلاقات الثنائية بين البلدين. الأرجح أنّ…

مخالفات على خطّ اليرزة-السّراي

ضمن سياق الظروف الاستثنائية التي تملي على المسؤولين تجاوز بعض الشكليّات القانونية تأخذ رئاسة الحكومة على وزير الدفاع موريس سليم ارتكابه مخالفة جرى التطنيش حكوميّاً…