أين أثرياء المسيحيين من فقرائهم: كنيسة متردّدة ورعية تتحرّك

مدة القراءة 7 د


“طون وسردين ما بدنا / بدنا العميد نايبنا”، هكذا هتف الإدّيون في بلاد جبيل وكسروان – الفتوح لشدّ عصب شعبيتهم خلال انتخابات 1951 النيابية، في مواجهة لائحة منافسة كاسحة موالية لرئيس الجمهورية بشارة الخوري، ضمّت مرشحاً من عمشيت اسمه روفايل لحود، وكان مجهولاً، عائداً من اغترابه 16 عاماً في الأرجنتين تولّى خلالها وزارة الإعلام في عهد خوان بيرون.

لسوء حظ ريمون إدّه والكتلويين، قرّرت زوجة الكولونيل المحبوبة إيفا بيرون إرسال باخرة مساعدات إلى فقراء لبنان، تحمل كراتين في كلٍّ منها 10 علب سردين وطون ولحم، وكلّفت روفايل لحود بتوزيعها. وشاع بعد الانتخابات أنّ الكراتين هي التي أسقطت العميد، ورفيقيه في اللائحة، عن قضاء جبيل، محسن سليم والد الزميلين لقمان سليم ورشا الأمير، والشيخ كلوفيس الخازن عن قضاء كسروان، وكانتا دائرة واحدة.

إقرأ أيضاً: سياسيو الـ33 مليار دولار: فكّوا “القصبة” وجهّزوا المستشفيات(1/1)

تستحق كتباً سير رجال أمثال كلوفيس الخازن الذي خسر أمام نسيب رئيس الجمهورية الشيخ سليم الخازن، ومحسن سليم الذي ترشّح عن الدائرة الثانية في بيروت وفاز في الانتخابات التالية، لكنّه خسر في انتخابات بعدها أمام رشيد بيضون الذي قيل إنّه قدّم مساعدة مالية لوجهاء من الأكراد كان سليم توكّل للدفاع عنهم مجاناً في قضايا توّرطوا فيها، فما كان منه إلا أن طردهم من مكتبه بعدما تأكّد أنّهم انتخبوا خصمه بيضون.     

والقصد أنّ المساعدات العينية أو النقدية للمحتاجين عند وقوع الأزمات، لطالما تداخلت مع السياسة في البيئات اللبنانية، على تنوّعها، ولكن حتى اليوم أقلّه لا مساعدات ظاهرة في البيئة المسيحية.

يمكن لأن الانتخابات بعيدة؟

تنبغي الإشارة بدءاً إلى أنّ عائلات عُرفت منذ زمن بعيد بأعمال الخير، مثل آل إدّه وحلو وضومط وفرعون (رمزها الأصدق الراحل ميشال إدّه) ، وتجمع بينها للمفارقة روابط نسب وقرابة، لا تُعلن عادة أنّها قدّمت مساعدة فردية أو ساهمت في تمويل مشروع جماعي. لا تستدعي كاميرات تصوير تطبيقاً للوصية الإنجيلية: “أما أنت فمتى صنعت صدقة فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينك”. وغالباً تموّل هذه العائلات مشاريع للكنيسة. إلا أنّ الكنيسة بدورها تبدو غائبة عن قيادة عملية مساعدة كبيرة رغم تضخّم الحاجة وتفاقم أوضاع عائلات كثيرة في كلّ المناطق، بل هي ارتضت أن تكون عاملاً مساعداً بشكل مباشر في بعض المناطق، من خلال تقديم لوائح اسمية بالعائلات المحتاجة مع “داتا” كاملة عنها، وكذلك أمكنة لجمع المساعدات وتولّي توزيعها من خلال هيكليات كلّ أبرشية. كما أنّها تساهم من خلال مؤسسات تابعة لها ما زالت تقوم بعملها ولم تغيّر في نمطها إجمالاً، مثل “كاريتاس” التي قرّرت مضاعفة موازنتها لهذه السنة، لكن إدارتها ما زالت في مرحلة انتقالية بين رئيس سابق ورئيس جديد.

طبعاً لا يُشبه هذا الأداء إطلاقاً ما كان عليه زمن البطريرك الياس الحويك. تذكر كتب التاريخ أنّ الحويك عندما وقعت مجاعة 1914 – 1918 تولّى بنفسه من بكركي تنظيم عمليات الإغاثة والسعي إلى تمويلها، وكان يرعب المطارنة والكهنة خدّام الرعايا بأوامر مباشرة يشرف على تطبيقها بصرامة ودقّة مساعدُه الخوري بولس عقل الذي صار مطراناً نافذاً لاحقاً.

اختلفت الظروف والأوضاع والبطريرك بشارة الراعي يؤمن بأنّ على الدولة أن تقوم بواجباتها حيال المواطنين، وما للدولة للدولة وما للكنيسة للكنيسة. في لقاءاته لا يخفي أمام من يطالبونه بتبنّي سياسة منحازة إلى الفئات الرقيقة الحال، في المدارس والجامعات والمستشفيات التابعة للكنيسة، أنّ الكنيسة تساعد، لكنّ “الحل هو عند الدولة وليس عندنا”، و”على الناس مطالبة نوابهم ووزائهم بتحسين أوضاع المدارس الرسمية والجامعة اللبنانية والمستشفيات الحكومية”. أما الكنيسة فهي “حرّة” في مؤسساتها، ومن لا يستطيع التكفّل بتكلفة أولاده في مدرسة خاصة فليعمل حساباته جيداً ويرسلهم إلى مدرسة رسمية.

ويضيف مسؤولون في الكنيسة هذه الأيام أنّ غالبية المدارس التابعة لها باتت في وضع إفلاس ولن تستطيع الاستمرار، لأنّ الأهالي لا يدفعون الأقساط منذ أشهر بعيدة، حتّى قبل ثورة 17 تشرين، وتكلفة رواتب الأساتذة كبيرة: “نقوم بما نقدر عليه، فلا ترموا المسؤولية علينا”، هكذا يقولون.

ليس كلّ المسؤولين عن الكنيسة من هذا الرأي. في الاجتماع الأخير لمجلس الأساقفة والمطارنة الموارنة، ثمة من دعا إلى وضع أملاك الكنيسة بتصرّف الناس لمساعدتهم في تجاوز الأزمة، والإفراج عن “القرش الأبيض” ما دامت الرعية تعيش في “اليوم الأسود”، خصوصاً أنّ الكنيسة أكبر مالك عقاري بعد الدولة في لبنان. وكان البطريرك الراعي، الذي يفضّل على الدوام تفاهم الأحزاب على سياسة واحدة للمسيحيين بإشراف الكنيسة ( كما فعل عندما حصر الترشيح لرئاسة الجمهورية في قادة أربعة أحزاب)، والأحزاب، قد أوعز بتشكيل لجنة برئاسة المطران بولس الصياح، ضمّت ممثّلين لأحزاب التيار العوني والقوات والكتائب والمردة وحركة الاستقلال والطاشناق. اجتمعت اللجنة مراراً في بكركي وأوصت بوضع استراتيجية عمل تتضمّن التساهل مع الأهل في دفع الأقساط المدرسية والجامعية، والضغط على المصارف لجدولة ديون القطاع الخاص، على غرار قرار الحكومة لاحقاً جدولة دفع أقساط اليوروبوند، وتسخير قدرات الكنيسة والأحزاب لخدمة المجتمع والناس ومضاعفة إمكانات المؤسسات الإنسانية، كاريتاس وغيرها.

التدقيق يبيّن أن ثمة مبادرات عدة انطلقت لإغاثة العيل المستورة أو هي في طور الإعداد. في كسروان مثلاً يُحكى عن نائب مقتدر أبدى استعداداً لتقديم ما يصل إلى 15 ألف حصة غذائية شهرياً تحت شعار “ما حدا رح يجوع بكسروان”

وبدا مع هجوم وباء كورونا أنّ الوضع لا يتحمّل سياسة الانتظار التي تنتهجها الكنيسة والانشغال بإحصاء خسائرها والتحوّط والقلق على مستقبل مؤسساتها. فكان لا بدّ من إعلان وضع دير مهجور أو مركز ما في خدمة المطلوب حجرهم لإصابتهم بالوباء، ولكن من غير إعلان أو إشارة إلى من سيجهّز هذه الأمكنة لاستقبال المحجورين. وحتّى المستشفيات القليلة التي أبدت استعدادها لاستقبال المصابين بكورونا، أقدمت بعد تمهّل وتردّد شديدين، لكأنّها على مضض وانشغال بالتكاليف ومن سيغطي مالياً، مفضّلة في التأسيس ترك هذه المهمة الإنسانية والوطنية للمستشفيات الحكومية، رغم أنها أفضل تجهيزاً وقدرة منها بكثير.

لكنّ الطبيعة تكره الفراغ. والتدقيق يبيّن أن ثمة مبادرات عدة انطلقت لإغاثة العيل المستورة أو هي في طور الإعداد. في كسروان مثلاً يُحكى عن نائب مقتدر أبدى استعداداً لتقديم ما يصل إلى 15 ألف حصة غذائية شهرياً تحت شعار “ما حدا رح يجوع بكسروان”. وهناك مشروع أوسع، محرّكه رئيس “مؤسسة الانتشار الماروني” شارل الحاج، تشاركه شخصيات متمكّنة مالياً في لبنان وخارجه، وتساعده الرهبانية اللبنانية المارونية لتوزيع نحو 15 ألف صندوق مواد غذائية وتنظيفية في كلّ قرى لبنان. وقد أحصى القيّمون عليه من خلال مؤسسة متخصّصة، العائلات الراغبة في الإفادة منه، انطلاقاً من تصنيفات جمعيات ومؤسسات كنسية ووزارة الشؤون الاجتماعية، وأضيفت إليها عائلات كانت خارج التصنيف وساءت أوضاعها بفعل النكبات المتراكمة: من القطاع المصرفي، والكورونا، وانهيار دولة الرعاية.

ويقول مساهم في التحضير لهذا المشروع لـ”أساس”: “كان في لبنان نحو 120 ألف عائلة محتاجة قبل سنتين، صارت 400 ألف عائلة تقريباً. منها ما بين 60 و70 ألف عائلة مسيحية. سنعمل بشفافية وبكل طاقتنا. والكنيسة ستضع يدها معنا. هل تعلم أنّ لدى الكنيسة المارونية وحدها 29 ألف موظف يعملون في مؤسساتها وتحمل عبء رواتبهم؟ أليست هذه مساهمة كبيرة في مساعدة الناس؟”.

 

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…