ذكرى التحرير: لماذا استغرب نصر الله “غياب الاحتفالات”؟

مدة القراءة 6 د


في إطلالته الأخيرة لمناسبة الذكرى السنوية العشرين لتحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، استغرب الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، كيف أنّ تفاعل لبنان مع هذه الذكرى كان عادياً بالقياس إلى تفاعل الإسرائيليين معها. ثمّ وفي معرض جوابه على سؤال الإعلامية بثينة علّيق، أكدّ نصرالله أنّ “الجو الداخلي في العام 2000 لم يكن أفضل من الآن لناحية الانقسام العمودي حول المقاومة”، واعتبر أنّه “من العام 1982 إلى اليوم لم يكن هناك إجماع على المقاومة حتى يقال إنها خسرته”.

إذاً، فمن جهة يستنكر نصرالله عدم إحياء اللبنانيين للذكرى بما تستحقّ. ومن جهة ثانية، يقرّ أن “لا إجماع لبنانياً على المقاومة”، وحين يقول “مقاومة” يعني “حزب الله” حصراً بالطبع. لذا، فإنّ إقراره هذا كان يفترض أن يشكّل سبباً كافياً لعدم استغرابه برودة تفاعل اللبنانيين مع هذه الذكرى المهمّة. والأهمّ أن تحليله هذا كان يفترض أن يدفعه إلى مساءلة نفسه وحزبه عن أسباب غياب مثل هذا الإجماع، ومثل هذه الاحتفالات التي كان يجب أن تملأ الشوارع. لأنّ سؤالاً كهذا يفترض أن يكون رئيسياً لدى أيّ حركة مقاومة في العالم تسعى إلى خلق “بيئة استراتيجية” وطنية إلى جانبها.

إقرأ أيضاً: لا نريد أن نصلّي في القدس… نريد كهرباء لبشير

لكن يستدلّ من كلام نصرالله أنّه يتقصّد عدم طرح مثل هذا السؤال. فهو بوضعه هذه المسألة ضمن سياق زمني ممتدّ من العام 1982، يتصرّف كأنّ طبيعة المقاومة هي نفسها منذ ذلك الحين، وكأن عدم الإجماع حولها هو نفسه أيضاً، وكأن المعطيات السياسيّة اللبنانية والإقليمية والدولية لم تتبدّل. أما في الواقع فنصرالله يعلم، تمام العلم، أنّ الإجماع حول المقاومة الوطنية في العام 1982 كان أوسع ممّا هو عليه اليوم الإجماع حول حركة حزب الله وسلاحه. وهو يدرك أنّ الانقسام حول “مقاومته الحصرية” قبل العام 2000 لم يكن بالحدّة التي تَسِمه اليوم. وهو يدرك أيضاً أن هذا الانقسام أخذ يتجذّر تدريجاً منذ العام 2005، وقد بلغ أوجه في 7 أيار 2008 عندما هجم حزب الله على بيروت التي قاومت الاجتياح الإسرائيلي، وعلى الجبل، فاتحاً سيرة جديدة لسلاحه هي استخدامه في الداخل لتغيير معادلات سياسية، بعيداً جداً عن الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلّة. ثم استخدم السلاح مجدّداً في “حركة” سياسية سمّيت “القمصان السود”، كان هدفها إقالة سعد الحريري وتعيين نجيب ميقاتي مكانه في العام 2011. وبين هذا وذاك وقع اتهام المحكمة الدولية أعضاءً في حزب الله باغتيال الرئيس رفيق الحريري. وفي العام 2012 كان تدخّله في الحرب السورية سبباً لجعل الانقسام حوله يخرج من البيئة اللبنانية، إلى الأفق العربي، وقد بلغ بلاد المغرب، لا لبنانياً وحسب، مع تحوّله إلى “قوّة تدخّل” إيرانية في بلاد العرب لمحاولة تمزيق أوطانهم، وقد نجحت في سوريا والعراق واليمن على الأقلّ. 

وعليه، فإنّ كلام نصرالله عن “الإجماع” حول “المقاومة”، أي حول هذا السلاح، بوظائفه المذكورة، يعني ببساطة أنّ حزب الله يتهرّب عملياً من تحمّل أيّ مسؤولية في “الانقسام حول المقاومة”. ويريد، في المقابل، تحميل معارضيه من اللبنانيين مسؤولية أخلاقية فيه. إذ إن نصرالله لا يُعرض اعتباطاً عن أيّ تحقيب زمني لمسألة الإجماع هذا، بل هدفه فرض تناول المقاومة في الحيّز السياسي كمعطى أخلاقيّ مجرّد ومعزول عن أيّ سياق تاريخي وسياسي. وهو ما يتيح له جرّ النقاش بشأن مقاومته إلى ملعب الأخلاق .

كذلك، فإنّ هذا التجريد للمقاومة يساعد الحزب على طمس ازدواجيته التكوينية، بصفته حركة مقاومة تمتلك ترسانة سلاحية وصاروخية كبيرة، وبصفته حزباً سياسياً تسمح له ترسانته هذه برسم شروط اللعبة السياسيّة وسقوفها. أي إنّه يخوض اللعبة السياسية مستخدماً أدواته السياسية والعسكرية والأمنية، وفي الوقت نفسه يستخدم الصفة الأخلاقية والوطنية لكلمة “مقاومة”.

استطاع حزب الله، في السنوات الأخيرة، رسم سقوف للّعبة السياسيّة تقضي بإخراج موضوع سلاحه من التداول السياسي بين القوى الرئيسية

وبذلك، يعيد حزب الله إنتاج سياسات الأنظمة العربية (خصوصاً نظام البعث في سوريا)، لاسيما في مرحلة ما بعد نكسة 1967، لجهة فرض حالة الطوارئ وإلغاء السياسة بحجّة أنّ الأولوية الوطنية والأخلاقية لمجابهة إسرائيل. وإذا كانت المعطيات اللبنانية لا تسمح له ببلوغ ما بلغته الأنظمة العربية لهذه الناحية، فإنّ حزب الله استطاع خلق بيئة سياسية مؤاتية له في لبنان، لاسيّما منذ التسوية الرئاسية في العام 2016 وما تبعها من فوز له ولحلفائه بالغالبية البرلمانية. وأخيراً، تشكيل حكومة موالية له. وكلّ ذلك بالرغم من بلوغ الانقسام الشعبي حوله حدوداً غير مسبوقة.  

هكذا استطاع حزب الله، في السنوات الأخيرة، رسم سقوف للّعبة السياسيّة تقضي بإخراج موضوع سلاحه من التداول السياسي بين القوى الرئيسية. واللافت أنّ القوى السياسية الرئيسية التي خاصمت الحزب منذ العام 2005 التزمت هذه السقوف. حصل هذا تارة بحجّة أن سلاحه مسألة إقليمية، بينما يفترض أن تكون سياسات الحزب الإقليمية سبباً إضافياً لمساءلته والاصرار المنهجي على النقاش في الاستراتيجية الدفاعية، وتارة أخرى، بحجّة أن الأولوية اليوم لـ “الشراكة الحقيقية” ولمكافحة الفساد، والحدّ من الانهيار المالي والاقتصادي الحاصل.

مع العلم أنّ رئيس الجمهورية حليف الحزب، قال في تشرين الأول 2019: إنّ “لبنان وقع تحت الحصار المالي والعقوبات. وهو ما يعني عملياً أنّ جزءاً رئيسياً من الأزمة الاقتصادية سببه تحوّل لبنان ساحة صراع أميركي – إيراني. وهذا لا يمكن إسقاطه عند مقاربة موضوع سلاح حزب الله والإجماع حوله، ما دام لبنان قد أصبح، والحال هذه، ورقة بيد إيران تستخدمها، تشدّداً أو ليناً، لتحسين شروط مفاوضاتها مع الدول الغربية.

لقد كتب القيادي السابق في المقاومة الوطنية كريم مروة في جريدة “النهار” (تموز 2000) أنّ “الكفاح المسلح أصبح بعد الانتصار التاريخي في استعادة الأرض، جزءاً من الماضي، أو هكذا يجب أن يصبح ما لم نُواجَه باحتلال جديد. ويصبح السلاح الوحيد هو سلاح الدولة بإطلاق. أما النضال لاستعادة ما تبقّى من الأرض، فله أشكال لا حصر لها”.

هو نقاش بشأن المقاومة والحدود بينها وبين الدولة توقّف في لبنان إلى حدّ بعيد. وليس بلا دلالة أن يقابَل النائب وليد جنبلاط بالتخوين والتسفيه لمجرّد إثارته موضوع لبنانية مزارع شبعا أخيراً. والأسئلة المطروحة: هل في توقّف هذا النقاش مصلحةٌ لبنانية (وللمقاومة كفكرة) أو إيرانية؟ وهل تعيد الأزمة الاقتصادية، بأسبابها السياسيّة ونتائجها الكارثية، إنتاج النقاش السياسي بشأن سلاح حزب الله؟ وماذا عن مفاعيل إصدار الحكم في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري لهذه الناحية؟

نحن يجب أن نسأل نصر الله: لماذا حوّلتم المقاومة من “فكرة” إلى “سلاح”؟

مواضيع ذات صلة

فلسطين أم خيبر؟! لبنان أم كربلاء؟!

نهجان يقرآن أزمة لبنان. نهجٌ يرى أنّنا في مواجهة عمرها 1,400 عام. ونهجٌ آخر لبناني يرى أنّ الأزمة هي في كيفية إبقاء قضية فلسطين بوجه…

أين بيروت التي “تحترق ولا ترفع رايةً بيضاء”؟

بدت بيروت يوم الخميس الفائت، بعد تحليق طائرة استطلاع وخمسة إنذارات كاذبة تنذر بقصف إسرائيلي، مدينةً لا تشبه تلك التي كانت هنا وفيها وُلدنا ونشأنا…

بلينكن وهوكستين… مبعوثا الوقت الضائع

الحرب تزداد اشتعالاً في غزة، ولا مؤشرات على توقفها، وكذلك الحرب على الجبهة الشمالية، تشتد كل يوم وتتصاعد وتتضاعف أهدافها. تحت ضغط القتال على الجبهتين…

أمور خطيرة ليست للرّؤية ولا للكتابة؟

 هل هناك عصر إسرائيلي مقبل؟ لا يبدو ذلك صحيحاً على الرغم من تأكيدات نتنياهو. فالقضية الفلسطينية هي همٌّ عالمي وليست همّاً عربيّاً وحسب. أمّا الميليشيات…