قد يكون المفتي الجعفري الشيخ أحمد قبلان على حقّ. الأصل في نشأة لبنان، أساسٌ طائفيٌّ استبداديّ، لأنّ فرنسا جعلت جبل لبنان ذا الأغلبية المسيحية، مركز الثقل في دولة لبنان الكبير عام 1920، وضمّت إليه قسراً المدن الأربعة: طرابلس وبيروت وصيدا وصور، ومعها الأقضية الأربعة التي ظلّت سوريا الحديثة تطالب بها ردحاً من الزمن. وبحسب نصّ إعلان الجنرال غورو للبنان الكبير في أول أيلول من ذاك العام، يُضمّ إلى لبنان (أي الجبل)، ما بقي من ولاية بيروت العثمانية: أقضية صيدا وصور ومرجعيون، وما تبقّى من ولاية طرابلس العثمانية مع قضاء عكار. أما الأقضية الأربعة فهي البقاع (المعلّقة) وبعلبك وحاصبيا وراشيا.
وبالإجمال، كان الموارنة هم القوة الرئيسية في البنيان اللبناني، كما كان السنّة في حقبة إعلان لبنان الكبير نواة الموقف الإسلامي الرافض لهذا الكيان. أما تبرير ضمّ المناطق ذات الأغلبية المسلمة إلى جبل لبنان ذي الأغلبية المسيحية، فتلخّصت بأنّ الجبل فقير، ويحتاج إلى سهول خصبة للزراعة وموانئ بحرية للاستيراد والتصدير. وخلال التفاوض على حدود لبنان بين الموفدين المسيحيين وفرنسا عام 1919، برزت معلومات عن اتفاق رجال الملك فيصل بن الحسين الهاشمي مع ممثّلي فرنسا، على استبعاد بيروت وطرابلس، المدينتين السنتين غالباً، واللتين يسكنهما غير لبنانيين، أي غير مسيحيين، بمصطلحات ذلك العصر (اللبناني هو المسيحي، والمسلم هو غير لبناني)، فتُتركان حرّتين خارج لبنان، وأن تكونا مرفأي سوريا، لكنّ الموارنة أصرّوا على ضمّهما (حكمت ألبير حدّاد، “لبنان الكبير“).
إقرأ أيضاً: نهاية زواج متعة… بين عقلين انقلابيين
الفئة التي رفضت سلخ المدن الأربعة والأقضية الأربعة، رأت في المشروع الفرنسي هدفاً استعمارياً يقضي بجعل لبنان قاعدة استراتيجية على البحر المتوسط. وهذا مصداق قول المفتي قبلان، أنّ وظيفة لبنان منذ نشأته هي “خدمة المشروع الاستعماري”. لكن ما هو محيّر، أنّ بعض الشيعة في ذلك الزمان لم يكونوا منزعجين من هذا اللبنان، بل كانوا مرحّبين به. بل تقول الوقائع إن عرائض شعبية طلعت من جبل عامل ومن قرى وبلدات شيعية، فضلاً عن عرائض سنية في مناطق محدودة، طالبت بالانضمام إلى لبنان، وصبّت كلها في خدمة مساعي البطريرك إلياس الحويك، لدى فرنسا خاصة، من أجل توسيع حدود لبنان المستقلّ. أما الموقف الأرثوذكسي فكان معادياً لفرنسا في تلك الحقبة.
ولاسترضاء الرافضين للانتداب، عقدت فرنسا معاهدة مع السوريين وأخرى مع اللبنانيين عام 1936، تتعهّد بمنح الاستقلال للبلدين. وأُضيفت إلى المعاهدة اللبنانية ملاحق كان بينها رسالتان “6 و6 مكرّر” موجّهتان من الرئيس إميل إدة إلى المفوّض السامي الفرنسي الكونت دي مارتيل تتضمّنان التعهّد بما يلي: المساواة في الحقوق المدنية والسياسية دون محاباة، وتمثيل العناصر المختلفة في مجموع الخدمات على قدم المساواة، وتوزيع النفقات على المصالح العامة بإنصاف، وتوحيد النظام الضريبي، واللامركزية الإدارية.
كلّ هذا لإرضاء المسلمين، وإنصافهم ومساواتهم بـ”اللبنانيين” أي المسيحيين. لكن هذا التعهّد بقي حبراً على ورق. يكفي القول إنّ جبل لبنان كان معفياً من الضرائب وتؤخذ الضرائب من المناطق المضمومة إلى لبنان. فلهم المناصب وعلى غيرهم الضرائب (محمد جميل بيهم، “لبنان بين مشرّق ومغرّب 1920-1969“). وكما قال المفتي قبلان، كان النظام احتكارياً.
لكنّ الظروف السياسية والقانونية بدأت تتغيّر تدريجياً ابتداء من عام 1936 وصولاً إلى ذروة الأحداث عام 1943. وجد المسلمون في “لبنان الكبير” أنّ أشقاءهم في سوريا شقّوا طريقهم الخاصّ من خلال معاهدة 1936، وباتت الأولوية لديهم نيل الاستقلال بدل التلهّي بالأقضية المسلوخة. أما المسيحيون فوجدوا بعد هزيمة فرنسا في الحرب العالمية الثانية، وصعود نفوذ بريطانيا، أن “الأم الحنون” ليست قادرة على حمايتهم على مرّ الزمن من الغلبة الديموغرافية الإسلامية. ثم حدثت اختراقات فكرية مهمّة. ورائدها كاظم الصلح ابن عمّ رياض الصلح. ففي مؤتمر الساحل عام 1936، تميّز كاظم الصلح عن أقرانه رافضاً الموافقة على البيان الداعي إلى الوحدة مع سوريا. وبرّر موقفه في كتيّب يحمل عنوان: “مشكلة الاتصال والانفصال في لبنان“. ومن أبرز ما جاء فيه أنّ لبنان كان نتاج رغبتين. ففرنسا كانت راغبة بتكوين لبنان لفصل سوريا عن الساحل، وكان المسيحيون راغبين ببلد مستقل عن الهيمنة الإسلامية. ومع الوقت، تنبّه المسيحيون اللبنانيون إلى نُبل السوريين في تعاملهم معهم، ورأوا بالمقابل أطماع فرنسا في بلادهم. ومن الجهة المقابلة، خفّت الحميّة الوحدوية بين المسلمين، مع تشابك المصالح الوطنية، وظهر لديهم قدر متزايد من التفهّم لمخاوف المسيحيين.
هذه الثغرة التي فتحها كاظم الصلح أنتجت حواراً دام عامين بين شخصيات إسلامية ومسيحية في منزل يوسف السودا، وأنتجت ما سُمّي بـ “الميثاق الوطني اللبناني” عام 1938، وهو يتضمّن بنوداً متطابقة أو متشابهة مع الميثاق الرسمي عام 1943. لكن من أهمّ ما فيه بنده الثالث: “تأمين المساواة بين اللبنانيين على أساس العدالة والكفاءة لا على أساس الطائفية”. ثم جاء بيان البطريرك الماروني أنطون عريضة عام 1941 مطالباً بالاستقلال الناجز عن فرنسا، والقائم على الحرية والعدالة والمساواة، وانعقد اجتماع لعدد من الشخصيات تبنّى برنامجاً من ست نقاط. (باسم الجسر، “ميثاق 1943، لماذا؟ وهل سقط؟“).
أما قصّة ولادة الميثاق بين بشارة الخوري ورياض الصلح، فيرويها المؤرخ يوسف إبراهيم يزبك، في مجلة “ماغازين” الفرنسية عام 1958 ثم في مجلة “الأسبوع العربي” عام 1960: فقد التقى الزعيمان في عاليه قبل يومين من الانتخابات الرئاسية يوم الأحد في 19 أيلول 1943. واتفقا على صياغة أسس الميثاق الوطني وعلى معظم النقاط التي سوف تُعلن في البيان الوزاري لحكومة الصلح. وظلت الزيارة مكتومة حتى عن أقرب الناس إلى بشارة الخوري. ومن الأسس:
– لبنان جمهورية مستقلة استقلالاً كاملاً.
– لبنان ذو وجه عربي ولسان عربي وهو جزء من العالم العربي. له طابعه الخاص. ولا يقطع علاقاته الثقافية والحضارية التي أقامها مع الغرب.
– لبنان مدعوّ إلى التعاون مع الدول العربية وإلى الانضمام إلى الأسرة العربية بعد اعترافها باستقلاله ضمن حدوده، وعليه أن يحفظ التوازن مع الجميع وأن لا يميل إلى فريق.
– توزّع جميع المناصب في الدولة على جميع الطوائف بالإنصاف، وإذا كانت الوظيفة تكنيكية (فنّية) روعيت فيها الكفاية.
واعتبر الرئيس الخوري أنّ الميثاق الوطني ليس سوى اتفاق العنصرين اللذين يتألف منهما الوطن اللبناني على انصهار نزعاتهما في عقيدة واحدة: استقلال لبنان الناجز دون الالتجاء إلى حماية من الغرب ولا إلى وحدة أو اتحاد مع الشرق. (بشارة الخوري، “حقائق لبنانية“، ج2).
أما المرجع الدستوري الدكتور إدمون ربّاط فيقول إنّ “الميثاق الوطني، تسمية غامضة. فهو لم يكن اتفاقاً مبرماً، ولا تبادلاً لإرادات أو نيات مفصّلة. بل هو تقارب عفوي حصل بين قطبين كانا حتى تاريخه متضادين. هو أرضية تفاهم والتقاء في نقطة من نقاط التوازن”.
وكان الخوري من أوائل إن لم يكن أوّل من استعمل عبارة الميثاق الوطني، في خطبه خلال مراحل الاستقلال الأولى. ولم يصبح استعمالها شائعاً في الصحافة وعلى لسان السياسيين إلا بعد رحيل القوات الفرنسية آخر عام 1946.
ورأى ربّاط أن الميثاق الوطني كان في تصوّره الأول كما في مراميه السياسية، حلاً تسووياً للأزمة الإسلامية المسيحية التي كانت قد اعتورت تأسيس لبنان الكبير منذ عام 1920. وهو في نهاية التحليل عبارة عن ميثاق معقود بين الطوائف، بل هو بين الطائفتين المارونية والسنية اللتين تصدّرتا مواقع التوتر الإسلامي المسيحي.
يصرخ المفتي قبلان بالفم الملآن: “لا للطائف. لا لمزرعة الطوائف. لا لدولة الحصص. لا لنظام المحاصصة…”. فما دخل اتفاق الطائف بكلّ هذه البوائق والموبقات؟
أما الحصيلة النهائية للميثاق الوطني، فهي لبننة المسلمين وتعريب المسيحيين. فقد دخل لبنان في وجدان البلدان العربية، وتقبّل المسيحيون فكرة العروبة. ولم تتوانَ سوريا نفسها بلسان كتلتها الوطنية صانعة استقلال سوريا عن صرف أنظارها عن مطالبها في لبنان وطمأنة القادة اللبنانيين وتقديم الدعم لهم (إدمون رباط، “التكوين التاريخي للبنان السياسي والدستوري“).
فهل يمكن القول مع المفتي قبلان إنّ “الصيغة قد انتهت، وما قام به بشارة الخوري ورياض الصلح لم يعد يصلح لدولة وإنسان”؟.
إنّ فلسفة الميثاق صمدت على الرغم من كلّ الهزّات العميقة التي زلزلت لبنان على مدى 77 عاماً من استقلاله، و100 عام من تكوينه. لماذا؟ لأنّه لا لبنان من دونه. فجوهر الميثاق، هو موقع لبنان الدقيق بين الشرق والغرب، وعلى خطّ التماس بين الإسلام والمسيحية. ومن أجل ذلك، فإن الآلية المعقّدة التي جاء بها اتفاق الطائف عام 1989، لإلغاء الطائفية السياسية، تعبّر عن الهويّة المركّبة للبنان، وهي التي باتت جوهر المادة 95 من الدستور. أما نسف التوازنات يمنة أو يسرة، نحو ترسيخ الطائفية بمعنى ما، وتكريس غلبة طائفة على أخرى من جهة، أو إلغاء الطائفية السياسية والاجتماعية معاً جذرياً، أو محاولة العلمنة الشاملة من جهة أخرى، فهو دخول إلى المجهول، أو مشروع غلبة معلنة أو مستترة.
المفارقة، أنّ اتفاق الطائف تجاوز الميثاق الوطني في قضية استراتيجية. فالميثاق يؤكد حياد لبنان بإزاء الدول العربية ومحاورها. أما اتفاق الطائف فينصّ على العلاقة المميّزة بين لبنان وسوريا، إذ يقول: “لبنان الذي هو عربي الانتماء والهوية، تربطه علاقات أخويّة صادقة بجميع الدول العربية، وتقوم بينه وبين سوريا علاقات مميّزة تستمدّ قوتها من جذور القربى والتاريخ والمصالح الأخوية المشتركة، وهو مفهوم يرتكز عليه التنسيق والتعاون بين البلدين وسوف تجسّده اتفاقات بينهما في شتى المجالات، بما يحقّق مصلحة البلدين الشقيقين في إطار سيادة واستقلال كلٍّ منهما. وعليه فإنّ لبنان لا يسمح بأن يكون ممرّاً أو مستقرّاً لأيّ قوة أو دولة أو تنظيم يستهدف المساس بأمنه أو أمن سوريا، وإنّ سوريا الحريصة على أمن لبنان واستقلاله ووحدته ووفاق أبنائه لا تسمح بأي عمل يهدّد أمنه واستقلاله وسيادته”.
يصرخ المفتي قبلان بالفم الملآن: “لا للطائف. لا لمزرعة الطوائف. لا لدولة الحصص. لا لنظام المحاصصة…”. فما دخل اتفاق الطائف بكلّ هذه البوائق والموبقات؟ بل إنّ إلغاء الطائف يعيدنا إلى النصّ الحرفي للميثاق الوطني، الذي لا يتضمّن أيّ إشارة إلى العلاقة المميّزة بين لبنان وسوريا. بل علاقات متوازنة مع كلّ العرب. فهل هذا ما يريده؟
لا بالطبع. هو يريد ارتباط لبنان بسوريا وما وراءها من محور الممانعة وصولاً إلى الصين مروراً بإيران وروسيا، بدل العلاقات الطبيعية مع المحيط العربي. وهذا لن يتحقّق ..