دخل المجتمع المدني على خط “صندوق النقد الدولي” في الأسبوع الثاني من مفاوضات الحكومة اللبنانية مع “الصندوق”.
فقد بعث عدد من الناشطين اللبنانيين، بالتعاون مع وزير العمل السابق كميل أبو سليمان، بصفته خبيراً في آليات التفاوض مع الهيئات الدولية، وليس بصفته الحزبية، رسالة إلى الصندوق يقدّمون فيها اقتراحاتٍ لـ”شروط مسبقة” يطلبون فرضها على الحكومة قبل تقديم أيّ دعم أو مساعدة لها في مجالات مختلفة، أبرزها الكهرباء والتهريب.
الرسالة المفتوحة، بحسب ما جاء في الخبر الموزّع عنها، اعتبرها عميدُ المجلس التنفيذي في “الصندوق” “مهمة”، في ردّه الرسمي حين تسلّمها، و”لاقت أصداءَ إيجابية وثناءً في أروقة الصندوق”، بحسب مرسليها.
إقرأ أيضاً: “صندوق عون”: خطة القبض على أصول الدولة ومليارات المودعين
إلى جانب أبو سليمان، الخبير القانوني المخضرم، وقّع الرسالة عددٌ من الناشطين المدنيين، ومجموعات ناشطة داخل لبنان وخارجه، من الذين يراقبون بقلق سلوك الحكومة في مسار الإصلاح ولا يثقون به.
أبو سليمان حاول تجنيب الرسالة “الزواريب السياسية حتى لا يُستسهل إطلاق النار عليها”، كاشفاً أنّ الغرض الرئيسي منها هو “محاولة لفت نظر الصندوق” إلى ضرورة وضع لبنان على سكّة الإصلاح البنيوي الذي “يؤسّس لنتائج مستقبلة ملموسة، وحتّى لا تضيع تضحيات المواطنين من خلال مراكمة المزيد من الديون على كاهلهم”. فالرسالة في نظره تتبنّى طروحات موضوعية غير شعبوية، “قابلة للتطبيق في غضون 3 أو 4 أشهر”.
تُلقي الرسالة باللوم على السلطتين التنفيذية والتشريعية لفشلهما في إحداث تغيير من خلال إصلاحات هيكلية وقطاعية ملّ المواطنون من المطالبة بها، وتضع شروطاً تطالب الصندوق بفرضها على الحكومة لتكون ممرّاً إلزامياً لأيّ مساعدة، من بينها “الحوكمة وسيادة القانون، واستقلالية القضاء، وتعديل قانون الإثراء غير المشروع، ورفع الحصانة عن موظفي القطاع العام، وتقييد حصانات الوزراء، إضافة إلى إقرار مشروع قانون الجمارك، والتطبيق الفوري لقانون حقّ النفاذ إلى المعلومات، وطبعاً تعديل خطة الكهرباء”.
في ملفّ الكهرباء، يقول أبو سليمان إنّ الجدل الذي يواكب هذا القطاع داخل الحكومة، وخصوصاً قضية معمل سلعاتا مؤخراً “سيؤثّر حكماً في المفاوضات مع صندوق النقد. لأنّ للأخير لغته هي الأرقام، وليس الاعتبارات الطائفية”. وعليه، يستبعد أبو سليمان أنّ يمرّ أيّ قرار يتخذه اللبنانييون في خطة الكهرباء “حتّى لو وافق مجلس النواب ومجلس الوزراء عليه بالإجماع”، لأنّ الخطة الحالية في نظر الوزير السابق “باتت غير منطقية وصعبة التنفيذ بعد الأزمة الاقتصادية”، خصوصاً أنّ الجهات المانحة، وعلى رأسها صندوق النقد والجانب الفرنسي “غير راضين عنها في شكلها الحالي”. ويؤكد أبو سليمان أنّ القرار النهائي في هذا الملف سيكون “بيد المُموّلين”. ولذا، فإنّ أيّ خطة لا تنال رضاهم “لن تمرّ”.
ومن جملة المواضيع التي تركّز عليها الرسالة، ضرورة إنشاء “الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء”، وتعيين أعضاء جدد لمجلس إدارة “مؤسسة كهرباء لبنان”. وكذلك إجراء مسح لسائر موظفي القطاع العام، ومن ضمنهم موظفي المؤسسات العامة مثل هيئتي “أوجيرو” ومرفأ بيروت، وشركتي الخلوي، وذلك بواسطة شركة دولية تنهي العقود لجميع الموظفين الذين أدخلوا بطريقة غير قانونية.
الرسالة تكرّس لمنطق جديد في التصدّي لفساد السلطة. منطق يتحدّث بلغة الناس، لكنّه يبتعد عن الشوارع وعن التظاهر وقطع الطرق وحرق الإطارات، وهي أدوات مواجهة لم يثبت تحقيقها مكاسب ملموسة
أما في مجال مكافحة التهريب، فتتجنّب الرسالة التطرّق إلى كلّ ما هو غير اقتصادي، وتدعو إلى الالتزام بتمركز الجيش اللبناني عند المعابر الحدودية غير الشرعية، وإعادة هيكلة إدارة الجمارك، واستبدال أعضاء المجلس الأعلى وكبار الموظفين. ولاستعادة الأموال المنهوبة، تدعو الرسالة إلى أن تكون “الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد” خالية من الوجوه السياسية، وتُمنح حصانات للتواصل مع السلطات القضائية الأجنبية، والحقّ بالادّعاء على المتورّطين في الخارج.
وفي الحماية الاجتماعية، تطالب الرسالة بتدخل الصندوق مباشرة لتوزيع المساعدات الاجتماعية عبر “برنامج الطوارئ الوطني لاستهداف الفقر”، وبممارسة رقابة دولية حثيثة على المخصّصات والمدفوعات.
الرسالة تدعو الصندوق أيضاً إلى الضغط لتعديل قانون الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بغية تخفيض عدد أعضاء مجلس إدارته إلى ما لا يزيد عن تسعة من أصل 26 حالياً، وإلى خفض النصاب، وتنفيذ الإصلاحات الرقمية، ومكننة الخدمات للحدّ من الفساد وتحسين الخدمات.
إذاً، الرسالة تكرّس لمنطق جديد في التصدّي لفساد السلطة. منطق يتحدّث بلغة الناس، لكنّه يبتعد عن الشوارع وعن التظاهر وقطع الطرق وحرق الإطارات، وهي أدوات مواجهة لم يثبت تحقيقها مكاسب ملموسة.
ربما آن الأوان أن تنحو المجموعات الثائرة هذا النحو لفرض مطالبها، ومنها الانتخابات النيابية، أكانت مبكرة أو في موعدها وفق قانون جديد عاقل وعادل. ولعلّ هذا الأمر يكون مقدّمة لربط المطالب الاقتصادية بتلك السياسة (وما أصعب الفصل بينها)، أقله لتكون الجهات “المصدّقة” على زيادة منسوب الديون الجديدة صاحبة تمثيل فعلي، غير مشكوك بمشروعيته.