كان يمكن أن تكون كلمة رئيس مجلس النواب نبيه بري في 22 أيار الحالي بمناسبة عيد المقاومة والتحرير ويوم القدس وعيد الفطر، من النوع التقليدي مع بعض المواقف المتعلّقة بأحداث اللحظة، والتي ليس أقلها، ما يعانيه لبنان من أزمة اقتصادية واعتلال كياني بسبب ممارسات التيار الوطني الحرّ بما مؤدّاه ترسيخ الفدرالية في المجالات السياسية والاقتصادية والمالية دونما إعلان، لا سيما بعد دفاع رئيس التيار جبران باسيل عن بناء معمل سلعاتا لإنتاج الكهرباء، فهو ليس مشروعاً شخصياً له، بحسب تبريره، بل هو مهمّ لأنه يقع في منطقة مسيحية!
من هنا تميّزت كلمة بري بأهمية لافتة، فهو ذكر مرتين في خطابه كلمة الفدرالية لدى توصيفه مجموعات سياسية تعود بالزمن إلى الوراء وتحيي في عقولها مثل هذه المشاريع. وكان أكثر وضوحاً ومباشرة، عندما دعا إلى تحرير ملف الكهرباء من العقلية الطائفية، المذهبية، المناطقية، والفيدرالية، والكونفدرالية. صوّب الكلام إلى التيار الوطني الحرّ، وأشار بشكل أو بآخر إلى أنه صاحب فكرة الفيدرالية، وهو يبتزّ القوى السياسية على اختلافاتها بهذا العنوان، فإما أن يوافقوه على ما يريد في الدولة وتركيبتها وإما سيبقى حاملاً لهذا الطرح.
إقرأ أيضاً: جبران باسيل يبتزّ حزب الله واللبنانيين: إمّا معي وإما التقسيم
وعلى هذا، فإن إعلان برّي صراحة وقوفه بوجه الفيدرالية السياسية، المالية، وكلّ ما يرتبط بهما، هو تصعيد سياسي في لحظة دقيقة، واتهام ضمني للتيار الوطني الحرّ بانتهاج سبيل الفدرالية عملياً، فيما كانت الدعوة إلى الفدرالية لصيقة لسنوات طويلة بأحزاب وجهات سياسية أخرى، وكان التيار العوني يندّد بها دائماً وبمن يدعو إليها على مدى تاريخه السياسي، وهذه مفارقة.
وما هو مميّز في كلمة بري، أنه اعتبر تطبيق اتفاق الطائف الردّ الأمثل على هذه الدعوات التي “هي استسلام لمشيئة المشاريع الصهونية الهدّامة”. ودعا إلى “إعادة إنتاج الحياة السياسية انطلاقاً من إقرار قانون انتخابي خارج القيد الطائفي يؤمّن الشراكة للجميع على قدم المساواة وذلك ارتكازاً على قاعدة النسبية، ولبنان دائرة انتخابية واحدة، وإنشاء مجلس للشيوخ تمثّل فيه كلّ الطوائف بعدلٍ ومساواة إنفاذاً لما نصّ عليه اتفاق الطائف تمهيداً لدولة مدنية”.
تمسّك برّي باتفاق الطائف جاء في عزّ الخلاف بين حزب الله والتيار الوطني الحرّ، إذ كانت المرّة الأولى التي يلجأ فيها التيار العوني إلى المسّ بسلاح الحزب، ويطرح معادلات جديدة. وظهرت لعبة الابتزاز، بوضوح فاضح، بحيث يقول التيار للحزب: “الغطاء لسلاحك مقابل سيطرتنا على الدولة، كما حصل في العام 2016، أي التسوية الرئاسية.” بعبارة أخرى، يحاول باسيل تكرار التسوية التي جاءت بالجنرال عون رئيساً، كي يصل هو هذه المرة وإلا فلا غطاء لسلاح الحزب.
ثم أتى خطاب المفتي الجعفري أحمد قبلان صبيحة عيد الفطر، ليفجّر إشكالية كبرى تاركاً أسئلة تفتح الباب أمام احتمالات وتفسيرات شتى. فهل كان المفتي قبلان يردّ على التيار الوطني الحرّ ويندّد بالطبقة السياسية التي تؤبّد النظام الطائفي بدلاً من تغييره، أم كان يردّ على الرئيس بري؟ صحيح أنه يتلاقى مع كلمة رئيس مجلس النواب، فيما خصّ إلغاء الطائفية، لكنه شنّ حملة غير مسبوقة على الصيغة التي أسّست النظام اللبناني، وعلى الميثاق الوطني المعقود بين الرئيسين بشارة خوري ورياض الصلح عام 1943، بل أعلن رفضه لاتفاق الطائف. فهل هذا موقف حزب الله أو جوابه على التيار الوطني الحرّ وعلى الرئيس نبيه بري معاً، ومعناه السياسي، إعادة طرح النقاش حول الصيغة السياسية والنظام السياسي اللبناني؟ المعادلة التي رفعها التيار الوطني الحرّ هي السلاح والدويلة مقابل السيطرة على المؤسسات السياسية والمالية في الدولة، ليبقى لحزب الله تحديد معالم السياسة الخارجية. لكن ردّ المفتي قبلان كان أبعد مما توقّعه العونيون، والذي كانوا يحلّلونه في بعض مجالسهم، بشأن طرح المثالثة. وتلك معادلة طرحها التيار الوطني الحرّ خلال خوض ميشال عون معركته الرئاسية، مسلّفاً موقفاً كهذا لحزب الله ليستمرّ بكسب دعمه الرئاسي. ولطالما حاذر الحزب من طرح النقاش في تغيير النظام السياسي، وحتى المثالثة في هذه المرحلة، لأنه لن يكون في مصلحته، فيما نجح في مشروعه القاضي بالسيطرة على الدولة بكاملها، ومن خلال تسوية العام 2016، إذ تسلّم من السنة والمسيحيين قرار البلد وآلية تكوين السلطة فيها، من رئاسة الجمهورية إلى رئاسة المجلس النيابي والحكومة برئاستها ووزرائها أعداداً وحقائب. هو حتماً لن يتنازل عن ميزة كهذه توفّر له أيضاً الغطاء السياسي والمؤسساتي اللازم، فيسيطر على دولتين، أولى تسمّى لبنان، وأخرى جمهوريته الخاصة التي لها بحرها وبرها وجوها، ما بين الجنوب والسلسلة الشرقية بما فيها من ترابط ومقوّمات. فلماذا الدعوة اليوم إلى تغيير النظام اللبناني وعلى لسان أعلى مرجعية دينية شيعية رسمية؟ هل هي من باب رفع سقف الشروط في مفاوضات جارية، أم هي تعبير عن قلق من ضياع المكتسبات والبلد على حافة الانهيار الشامل؟
انهيار الدولة في لبنان، وطروحات إسقاط النظام السياسي أو الفيدرالية، يعود إلى انهيار المنظومة السياسية السنّية. وهي التي كانت الفيصل التاريخي في مواجهة مشاريع التقسيم والتشتيت
في كلّ الأحوال، فإن الردّ الشيعي الذي لا ينحصر نطاقه في التيار الوطني الحرّ، بل يطال بشراراته كلّ الأحزاب وكلّ الطوائف، أقلق المسيحيين بطبيعة الحال. فهم يعتبرون أنفسهم شركاء أساسيين في الصيغة والميثاق، بل أصحاب الحق في البلد. وما طُرِح وَضَعهم في مأزق أمام بيئتهم ومكتسباتهم التاريخية، ليتحوّل النقاش من استعادة حقوق المسيحيين والصلاحيات الرئاسية، إلى نقاش حول المثالثة. نقاش تأخّر لسنوات وقد طُرح في المرّة الأولى في مؤتمر سان كلو عام 2007، وكان واضحاً أنه يخدم وجهة نظر حزب الله في تلك المرحلة، قبل تحقيقه الانقلاب الكبير في الموازين، والسيطرة على لبنان بكلّيته وليس بجزئية منه.
أسقط “جنون” العونيين في يدهم. المشكلة، أنه يوم إعلان الميثاق، وتوقيع اتفاق الطائف، كان السنّة الشركاء الأساسيين في صوغهما. اليوم، تدور رحى المعركة بين الشيعة والمسيحيين في مشروعين بمعزل عن تناقضهما أو توافقهما، فيما يغيب السنّة بثقلهم وحضورهم وتأثيرهم وتاريخهم في تشكيل الميزان الحامي لما يسمّى دولة. انهيار الدولة في لبنان، وطروحات إسقاط النظام السياسي أو الفيدرالية، يعود إلى انهيار المنظومة السياسية السنّية. وهي التي كانت الفيصل التاريخي في مواجهة مشاريع التقسيم والتشتيت.
كان السنّة تاريخياً، هم صلة وصل الطوائف الأخرى مع الدولة، بمواجهة جموح المارونية السياسية إلى الاستئثار، وباستقطاب محاولات عزل الشيعة أو الدروز. بافتقاد السنّة لهذا الدور التاريخي، تتنامى مشاريع انتحارية، أو انعزالية. وحده نبيه بري، يعرف تلك المعادلة بشعيراتها الدقيقة في الدماغ. لذلك جاءت صرخته مدوّية، ضد حراك كثيف تشهده الأوساط المسيحية، يدعو إلى الفدرلة أو اللامركزية المالية والإدارية الموسّعة، وصولاً إلى طروحات تفوّقية على اللبنانيين الآخرين، تطال التوقّف عن دفع الضرائب والرسوم، إذا ما كانت عائداتها ستصبّ في مالية الدولة المركزية، وتستفيد منها مناطق أخرى، بمعنى أن ضرائب كسروان يجب أن تبقى في كسروان. هذه المعادلة تؤسّس مع حزب الله تبرير معابره غير الشرعية وآليته الخاصة في جباية المال. وذلك يعني انهيار الدولة وليس الصيغة فقط.