في “نفس يعقوب” سببٌ استدعى من الحكومة الاستعجال في طرح مشروع قانون “الكابيتال كونترول” للنقاش قبل خطّة الإنقاذ المالي والاقتصادي الموعودة، وبمعزل عنها.
بدا الأمر مفاجئاً للوهلة الأولى: الحكومة تعلن التعثّر، وينهمك الجميع في كيفية افتتاح التفاوض مع الدائنين، ويبدأ البحث بسيناريوات إعادة هيكلة البنوك ومصرف لبنان، وما قد تتضمّن من عملية “هيركت” على الودائع. تترك الحكومة كلّ الأسئلة المعلّقة وتذهب سريعاً إلى “الكابيتال كونترول”. فما الذي دعاها إلى ذلك الخيار؟ مع أنّ القيود مطبّقة من المصارف في واقع الحال، بسطوة الأمر الواقع، ومن دون قانون.
التفسير البدهِي أنّ المقبل من الإجراءات لا يمكن للنظام المصرفي أن يتحمّله من دون تشريع القيود الاعتباطية المطبّقة راهناً. فكلّ ما شهدته البنوك منذ 17 تشرين الأوّل 2019 حتّى اليوم ليس شيئاً بالمقارنة مع ما ستشهده حين تضع الحكومة خطتها على الطاولة. وقد صرّح وزير المال غازي وزني، للمرة الأولى، لصحيفة “فاينانشال تايمز”، بما هو متداول من أفكار، ومن بينها تجميد الودائع الدولارية لست سنوات أو أكثر، و/أو استبدال جزء من الودائع بأسهم في البنوك، أو استبدال أموال المودعين بوحدات بصندوق يتملّك أصولا حكومية. وجميع هذه المقترحات تعني خسارة بعض المودعين لجزء من أموالهم، أو استبدالها بما لا يمكن تسييله من الأصول إلا بخسارة كبيرة وبعد زمن بعيد.
إقرأ أيضاً: الكورونا ينقذنا من “اليوروبوند”
منتهى القول أنه عند إعلان الحكومة لخطتها، سيقع النظام كله، من حكومة ومصرف مركزي وبنوك، تحت ضغوط هائلة ومقاومة، وربما أعمال انتقامية، من المودعين الذين سيخسرون جزءًا ليس باليسير من أموالهم (وهو، بالمناسبة، أكبر مما توحي به التصريحات الحكومية). وإذا كانت الحكومة تعد بتقديم خطتها خلال مئة يوم من نيل الثقة، أي في النصف الأول من أيار المقبل، فإن الإطار الزمني للدورة التشريعية يقتضي إقرار مشروع قانون “الكابيتال كونترول” في الحكومة، ليقرّه المجلس النيابي ويصبح نافذاً قبل إعلان الإجراءات التالية.
المشكلة التي تواجه الحكومة أنّ أيّ قوننة للقيود على أموال المودعين لها محاذيرها الكبيرة على الوضع المصرفي. فليس سرّاً أنّ عدداً لا يستهان به من البنوك مفلس بتمامِ معنى الكلمة، وسينكشف حالها عند تطبيق قيود موحّدة على السحوبات والتحويلات. بينما الوضع الراهن يتيح لكلّ من البنوك تطبيق قيود تلائمه، ولو وصل الأمر إلى وقف السحوبات الدولارية والتحويلات تماماً، طالما أنّ القواعد اعتباطية وغير ملزمة.
الحكومة إذاً واقعة بين ضرورة تشريع القيود على حركة الأموال قبل إعلان خطتها، وبين خطورة إعلان تعثّر حزمة من البنوك دفعة واحدة.
هذا هو تفسير المساحة السائبة التي كانت موجودة في صياغة المادة السابعة من مشروع القانون، والتي نصّت، وفق تعديل أدخله وزير المال، على أن “تحدّد السحوبات بالعملة الأجنبية لدى المصارف العاملة في لبنان بأنظمة وتعاميم دورية تصدر عن المصرف المركزي بالتنسيق مع وزير المالية وجمعية المصارف والمصارف المعنية”. المقصود من هذا النصّ إعطاء مرونة لمصرف لبنان، تحت سيف السلطة السياسة ممثلةً بوزارة المال، للحؤول دون تكرار واقعة بنك “إنترا”، ولو من خلال تشريع الحبس القهري لأموال المودعين.
إلا أنّ التسريبات تشير إلى تعديل آخر طرأ على الصياغة ليصبح قرار تحديد سقف السحوبات بيد “مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزير المال”، لا بيد حاكم مصرف لبنان. وغالب الظن أنّ مصرف لبنان وجمعية المصارف سيعارضان ذلك بشدّة، لأنّه سيخرج من أيديهم القدرة على ستر العورات ومنع الإفلاسات.
النقطة الثانية الغامضة في مشروع القانون هي تلك المتعلقة بسعر الصرف. إذ لا يمكن انتهاج سياسة واضحة في شأن القيود على الأموال من دون تحديد سياسة ملازمة في شأن سعر الصرف. وقد تردّد أنّ في الفريق الحكومي من يطرح وجوب السماح بالسحب من الحسابات الدولارية بالليرة اللبنانية وفق سعر الصرف الموازي، أي بألفي ليرة للدولار. لكن من المستغرب أن يوافق مصرف لبنان على ذلك، لأنّ له تبعات محاسبية جسيمة. فليس بوسع المصرف احتساب مطلوباته الدولارية بالسعر الرسمي، فيما عليه أداؤها بسعر آخر يزيد عليه بثلاثين في المئة.
سيصبح مطلوباً من العميل المقترض بالدولار توفير كل ما يزيد على 650 دولارا من قروضه الشخصية، او ما يزيد على ألف دولار من قرضه الإسكاني، من السوق السوداء.
في الإطار الأشمل، لا يبدو مصرف لبنان مستعدّاً، حتّى الآن، لتغيير سعر الصرف الرسمي (الوهمي)، رغم إدراكه أنّ نظام تعدد أسعار الصرف بين رسمي ومواز وسوق سوداء، هو أساس كل الاختلالات في علاقة الناس بالبنوك، منذ بداية ثورة 17 تشرين، وربما قبلها. وقد ازداد الأمر سوءاً بعد ابتداع السعر الوهمي الخاص بالصرّافين المرخّصين عند ألفي ليرة للدولار. فهذا التعدّد يعني تطبيق “هيركت” مبطّن، يتيح لمن يرتضيه سحب وديعته الدولارية بالليرة، وتحويلها لدى الصرّافين بخصم يصل إلى 40%. وفي المقابل، يحجب البنك ما لديه من عملة صعبة عن المستوردين وسائر العملاء لأنّه لا يريد التفريط بالدولارات بالسعر الرسمي الذي يقلّ كثيراً عن قيمتها الحقيقية المسعّرة في السوق الموازية.
ما هو مطروح الآن في مشروع الكابيتال كونترول ليس حلّاً لهذه المعضلة، بل إبقاء لكل مساوئها، وإضافة ما هو أشنع. إذ سيصبح مطلوباً من العميل المقترض بالدولار توفير كل ما يزيد على 650 دولارا من قروضه الشخصية، أو ما يزيد على ألف دولار من قرضه الإسكاني، من السوق السوداء. وفي ذلك تعزيز لهذه السوق، التي يزعم مصرف لبنان أنّها هامشية ولا تشكّل إلا نسبة قليلة من تداولات النقد!
غير أنّ ذلك يؤكّد مجدّداً أنّ مصرف لبنان ليس في وارد القضاء على السوق الموازية في هذه المرحلة، أقلّه ليس قبل الشروع في إعادة هيكلة البنوك، أي قبل الإقرار الرسمي بإفلاسها، وربما الإقرار بإفلاس مصرف لبنان أيضًا. ليكتمل الإفلاس الثلاثي بعد إعلان الدولة عجزها عن سداد ديونها.
حتّى ذلك الحين، لا تستطيع الدولة، بسلطتيها النقدية والمالية، الخروج من لعبة الأرقام الكاذبة، وما سعر الصرف الرسمي إلا واحد منها. هذا إذا ظلّ صندوق النقد الدولي خارج المشهد، لكنّ الأبواب ستُفتح له في اللحظة المناسبة.