أصدرت المحكمة العسكرية في لبنان برئاسة العميد حسين عبد الله حكما قضى بكفّ التعقبات عن الموقوف عامر الفاخوري، في قضية خطف مواطنين لبنانيين واعتقالهم وتعذيبهم داخل سجن الخيام. واعتبرت المحكمة في حكمها الذي حمل الرقم 515/2020 الصادر بعد ظهر يوم الإثنين 16 آذار 2020، أن الجرائم المسندة إلى المتهم فاخوري سقطت بمرور الزمن العشري، وقررت إطلاق سراحه فوراً ما لم يكن موقوفاً بقضية أخرى.
مع صدور هذا القرار انطلقت المواقف والتعليقات والتحليلات والتوقعات بحصول صفقة مقابل اتخاذ قرارٍ بهذه الحساسية، وتصاعدت في الوقت نفسه وتيرة احتجاجات أهالي الموقوفين الإسلاميين وأصوات المطالبة بالعفو العام في أوساط البيئة الشيعية إيفاءً بالوعود التي أطلقها “حزب الله” وحركة “أمل” خلال فتراتٍ سابقة، لكن مطالب وطموحات الأهالي من كل هذه البيئات شيء، ومتطلبات السياسة والتزاماتها، ومستلزمات المشاريع الاستراتيجية للحزب شيء آخر، وسط حيرة مسيطرة حول نتائج وتداعيات إطلاق فاخوري.
إقرأ أيضاً: الفاخوري مشروعٌ وليس شخصاً (2/1): هل يعود لينتقم؟
في 17 آذار، قال النائب جميل السيّد لقناة “الجديد” إنّ “فاخوري لن يُرَحّل لأن العمالة مع “إسرائيل” لا تسقط بمرور الزمن حتّى لو سقطت المهلة الزمنية قضائياً لضرورات التعقب للعملاء الذين كانوا في الخارج”.
وبتاريخ 17 آذار الجاري غّرد السيد على “تويتر” بالتالي: “منذ 2005 باتت للمحكمة العسكرية مرجعيات سياسية، ولا يمكن أن تجرؤ هذه المحكمة بمفردها على تبرئة فاخوري، وأتمنى فعلاً أن يكون قد أُفرِج عنه بصفقة لصالح لبنان وليُعلنوا عنها للناس، أما إذا كان ببلاش، فيجب أن تتدحرج رؤوس”.
الواضح في هذه التغريدة أن السيّد يبحث في زحام هذا المشهد المختلط عن ملامح “الصفقة”، على الأقلّ فيما يعنيه منها، باعتباره ممثّل النظام السوري في الندوة النيابية ورفيق طريق ميشال سماحة في رحلة نقل المتفجرات من دمشق إلى لبنان.
من الطبيعي أن يبرز هذا الملف في هذا التوقيت، خصوصاّ أنّ الحزب سبق له أن استخدم نفوذه لإطلاق سراح سماحة في العام 2016 ومن المتوقع عودة حملة الضغوط نفسها بعد الإفراج عن عامر فاخوري.
وبحسب مصادر مطّلعة، فإنّ خطوات إطلاق سماحة القضائية والإجرائية لن تكون بعيدة وسيعمد “حزب الله” إلى تمريرها كـ”ردّة فعل” على إطلاق فاخوري، خصوصاً أنّه يمتلك الأغلبية الحكومية والنيابية والسطوة الأمنية والقضائية لتنفيذ هذا القرار، وسيكون “حزب الله” مستعداً لخوض معركة الدفاع عنه وتوفير كامل الحصانة له في المرحلة المقبلة.
كما يعمل الثنائي الشيعي في هذه الأثناء على ترتيب لوائح خاصة بالسجناء الشيعة الذين سيتم إخراجهم بموجب قرارات وأحكام قضائية معجّلة معظمها، بعيداً عن الإعلان والإعلام، وذلك بهدف إعطاء جرعة معنويات للبيئة الحاضنة التي خابت آمالها من تبخـّر الوعود بإصدار العفو العام، وقد وعدت قيادة “حزب الله” بأنه سيكون لها موقف مناسب يرضي الأهالي في القريب العاجل.
يبدو الموقوفون الإسلاميون في المشهد السائد كالأيتام على موائد اللئام، بعد أن أضاع الرئيس سعد الحريري عليهم الفرصة تلو الأخرى، وباتت موازين القوى مختلة وكل المفاصل السياسية والقضائية بيد الثنائي الشيعي وحليفه “التيار الوطني الحر”.
يجري الحديث عن قرابة 100 اسم تُحَضّرُها الدوائر الناشطة في “حزب الله” والمجموعات السنية المرتبطة به والمتخصّصة بالابتزاز والتوريط، وأنّ قرابة 50 منها أصبحت في طورٍ متقدّم وبقية الـ100 ستخرج تباعاً
لكنّ مصادر متطابقة تفيد بأنّ “حزب الله” يقوم بإعداد قوائم لسجناء وموقوفين إسلاميين يريد إطلاق سراحهم في موجة جرثومة كورونا وفق مواصفاتٍ وشروطٍ تتناسب مع ما يريده للساحة السنية في لبنان، مستفيداً من تجارب سابقة ركّزت على ضخّ الغضب والسخط والعنف في نفوس المطلق سراحهم، وإحاطتهم بكل عناصر الانتقام والرفض الاجتماعي والانفصال عن الأهل والابتعاد عن مساحات الاحتواء والاستقرار. وهي عوامل يريدها الحزب شرطاً مضمراً لكل من سيشمله قرار إطلاق السراح، بعد دراسة معمّقة لجميع الملفات والأشخاص وسيَرِهم الذاتية وأوضاعهم الشخصية وأحوالهم النفسية، للعمل على استثمارها لاحقاً في إعادة دفع هؤلاء نحو مصائر أكثر سوداوية وسوءاً، ونموذج عبد الرحمن المبسوط وأثمانه الفادحة لا يزال واضحاً للعيان.. فلا يمكن الاطمئنان إلى نيات “حزب الله” في تحديد الأشخاص والتحكّم بلوائح الذين يفترض إطلاق سراحهم.
لفتُ النظر موجهٌ بشكلٍ محدّد إلى جميع السجناء والموقوفين أوّلاً، بضرورة الانتباه والتأمّل في تجاربهم ومآلاتهم، والأسباب التي أوصلتهم إلى السجون، من دون التدخل في قناعاتهم وأفكارهم، ومع الرجاء بأن تتوفر لهم كل عناصر العدالة والأمان للخروج من الاعتقال ومواصلة حياتهم بما يخدم دينهم ومجتمعهم، وبما يرفع منسوب الوعي والرؤية الصحيحة للأعداء والحلفاء، وتحديد الحريصين عليهم والمتاجرين بهم، والأولويات في ضوء الظروف الراهنة وكيفية الإفادة من كل التجارب التي شهدوها وشهدها العمل الإسلامي في لبنان منذ نشأته وحتى الساعة.
أما لفت النظر الثاني، فهو إلى الأهل الذين سيخرج من أبنائهم عددٌ محدود، بأن يدركوا أوّلاً ظروف خروجهم، وأن يبادروا إلى احتوائهم وإحاطتهم بكلّ الرعاية والاهتمام والوعي، مهما كانت ظروفهم صعبة وأحوالهم ضيّقة، لأنّها بكلّ الأحوال ستكون أقلّ ضيقاً من تكلفة وجود فلذات أكبادهم في السجون.. وأن يقدّموا لأبنائهم الحصانة والحماية من الانزلاق مجدداً إلى كلّ ما يؤدّي لعودتهم إلى أجواء الشبهات التي سمحت باعتقالهم وحبسهم في دائرة الظلم والتسييس التي لا تنتهي.
يجري الحديث عن قرابة 100 اسم تُحَضّرُها الدوائر الناشطة في “حزب الله” والمجموعات السنية المرتبطة به والمتخصّصة بالابتزاز والتوريط، وأنّ قرابة 50 منها أصبحت في طورٍ متقدّم وبقية الـ100 ستخرج تباعاً.
فليخرج من يخرج من أبنائنا الموقوفين، وتبقى المعركة الكبرى معركة تحقيق العدالة لجميع القابعين في السجن ظلماً وكيداً وعدواناً.. ولكن لتكن عيوننا مفتوحة وعقولنا مستنفرة، لأنّنا وحدنا اليوم في مواجهة كل هذه التحديات..
ألا هل بلغت؟
اللهم فاشهد!