تعرض الوزير السعودي الأسبق عبد العزيز خوجة لأربع محاولات اغتيال، على ما يروي في كتابه “التجربة” الذي سيصدر خلال أيام، إحداها في تركيا، والثلاث الباقيات في لبنان، حملته على قطع علاقته بالأمين العام لحزب الله حسن نصرالله.
الكتاب غنيٌ بالانطباعات عن رجالات السياسة في لبنان، ترد فيه إشادات خاصة بالوزير السابق جان عبيد والرئيس نبيه بري، و”أبطال الاستقلال الثاني”: البطريرك الراحل نصر الله صفير والرئيس فؤاد السنيورة والزعيم وليد جنبلاط، وشرح بالتفصيل لخلفيات مؤتمر الدوحة في ٢٠٠٨ وسبب انتخاب العماد ميشال سليمان وليس العماد ميشال عون أو نسيب لحود أو بطرس حرب رئيساً للجمهورية.
إقرأ أيضاً: خوجة يعترف (1/3): نصرالله “أقنعني” بالمحكمة الدولية
الخوجة أشاد في كتابه بالرئيس فؤاد السنيورة وبرَّأ حكومته من تهمة سرقة المساعدات الدولية في حرب تموز ٢٠٠٦، شارحاً طبيعة علاقة المملكة بحلفائها، حيث تغيب التبعية التي تحكم علاقة ايران بحلفائها، ومن أدلة ذلك: تعطيل حلفاء المملكة لمشروع “مؤتمر الرياض” الذي كان مفترضاً ان يسبق بأشهر “اتفاق الدوحة” في ٢٠٠٨.
وتلقي هذه الحلقة، الثالثة والأخيرة من الكتاب، ضوءاً من خلال بعض المقاطع المنتقاة على علاقة المملكة العربية السعودية ببشار الأسد:
*****
في مرحلة ما، كان هناك مناخ دولي يدفع إلى فصل بشار الأسد عن إيران وإعادته إلى المحيط العربي، وأظهر بشار تجاوبه مع هذا الطرح، متعهدا أمام الملك عبد الله والأمير (الملك) سلمان والأمير نايف والأمير سعود الفيصل والأمير بندر بن سلطان والأمير مقرن بن عبد العزيز بأن يدعم نهج سعد الحريري في لبنان. كان بشار يتوقع أن يربح حلفاؤه انتخابات ٢٠٠٩ النيابية، لكنني توقعت أن حلفاء المملكة العربية السعودية والعرب هم من سينتصرون في تلك الانتخابات، وثبتت لاحقاً صحة توقعي.
بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري، حاول السوريون التقليل من الضغط عليهم بجولات عربية في أوائل آذار، أي بعد الاغتيال بأسبوعين، فزار بشار المملكة، وسأله الأمير (الملك) عبد الله بن عبد العزيز بصراحته المعتادة عن سبب إقدام سورية على اغتيال رفيق الحريري، فأجاب بشار أنّه يجوز أنّ هناك أيادي لاستخباراته تصرفت من دون علمه. لم يصدّق ولي العهد ذلك الإنكار، فقد كان يدرك أن لبشار دوراً كبيراً. ولذا قال له: يفترض الآن بسورية الانسحاب الكامل والفوري من لبنان. وأكد على المغادرة بأسرع وقت، وإلا فهو يجازف بإفساد العلاقات مع المملكة: “إما الانسحاب الكامل من لبنان أو قطع العلاقات”.
سمع بشار النصيحة وألقى كلمة متلفزة طويلة أمام البرلمان السوري قلل فيها من الشعور المعادي لسورية، ولكنه أعلن الانسحاب في النهاية. كانت نصيحة المملكة حاسمة في هذا القرار.
عند اندلاع الثورة السورية، تعهّد بشّار للمملكة بالاستجابة لمطالب الناس والابتعاد عن إيران، وتعهد بعدم سفك الدماء، ومحاسبة كل من اعتدى على المدنيين العزّل، لكنه كذب مجدداً
يمكن تلخيص قصة المملكة العربية السعودية مع بشار الأسد على النحو التالي:
منذ وفاة حافظ الأسد، كانت للمملكة تحفظاتها عن بشار، لكنها تغاضت عن هذه التحفظات من أجل الحفاظ على سورية.
قدمت كل دعم لبشار من أجل تثبيت حكمه، وعندما نال ما أراده اتجه إلى إيران.
كان الملك عبد الله يمقت الكذب، وفي آخر زيارة لبشار إلى المملكة، قال له أمام الأمراء سلطان ونايف وسلمان وبندر بن سلطان: “أنا أعرف عمك قبل والدك، ثم عرفت والدك، الفرق بينك وبين والدك، أنّ حافظ صادق، لكن أنت كذاب كذاب كذاب”. فمنذ استشهاد الرئيس رفيق الحريري إلى اندلاع الثورة السورية كذب بشار في كل وعوده للمملكة بالابتعاد عن إيران وبعدم المسّ باستقرار لبنان.
إقرأ أيضاً: خوجة يعترف (2/3): نصرالله قال لي إن رفيق الحريري وقّع وثيقة إعدامه
وعند اندلاع الثورة السورية، تعهّد بشّار للمملكة بالاستجابة لمطالب الناس والابتعاد عن إيران، وتعهد بعدم سفك الدماء، ومحاسبة كل من اعتدى على المدنيين العزّل، لكنه كذب مجدداً، فقاطعته المملكة، وعندما بدأ بقصف المدن وقتل الناس وسلّم قراره كلياً إلى إيران، إتخذ الملك عبد الله قراره النهائي بأن بشار الأسد لا يستحق فرصة جديدة.
****
حين توليت وزارة الثقافة والإعلام، لم أتحرر تماماً من الملف اللبناني، كانت الانتخابات اللبنانية على الأبواب. أكدت للقيادة السعودية أن الانتخابات ستنتج نصراً حاسماً لقوى “١٤ آذار”، وفرح العاهل السعودي بصواب رأيي ودعاني إلى طائرته الخاصة في رحلة من الرياض إلى جدة ليبلغني برؤية المملكة للمرحلة المقبلة. علمت بالمهمة الجديدة، مرافقة الأمير عبد العزيز بن عبد الله (الذي أصبح في ما بعد نائباً لوزير الخارجية) إلى دمشق تلبية لدعوة بشار الأسد.
إجتمعت مع الأمير عبد العزيز بن عبد الله ببشار ووليد المعلم، جلسنا أربع ساعات متوالية، وبدأ الاجتماع بقول الأسد : “قالوا لي إنك خبير بالشأن اللبناني، أنا أعرف لبنان أكثر منك”. أجبته: “إنّ معرفتي المتواضعة بلبنان لا تضاهي معرفة سيادتكم، لكنها كافية للانتصار الكاسح في الانتخابات”. لم ينسَ بشار إجابتي هذه. زار الملك عبد الله دمشق بعدها بفترة في زيارة رسمية، ثم توجه الملك والرئيس الأسد إلى بيروت في الطائرة الملكية، وقبل جلوس بشار في مقعده قال لي: “منذ متى تركت بيروت؟”، قلت ببراءة: “منذ عام ونصف”، فأجابني بعد ضحكة عالية: “إنتهت صلاحيتك يا عبد العزيز”، واكتفيتُ بالابتسام.
مرّت الأشهر وقامت الثورة السورية ليخسر بشّار لبنان وسورية نفسها. وأنا أتابع أخبار الرئيس السوري تخيلتُ اتصالي به للقول: “إنتهت صلاحيتك يا بشار”.