سهيل عبود: صخرة “سيزيف” وليس “انتظار غودو”

مدة القراءة 5 د


في محاضرة ألقاها قبل سنوات، شبّه القاضي سهيل عبود الحمل الثقيل الملقى على بعض القضاة في مواجهة التدخلات الضاربة، بالسلك بـ “كرة سيزيف”، قائلًا: “نحن أصحاب الخيار في متابعة الطريق والمحاولات أو في انتظار “غودو”. استعان عبّود بالميثولوجيا الإغريقية بكل ما يعنيه حَمل صخرة العذابات من رمزية. هو خيار واقعي، برأيه، أمام خيار الانتظار بلا جدوى وسط اليأس الكامل.

في مسيرة القاضي، حيث يقف كثيرون رافعين القبعة لـ”عفّته” القضائية، ما يوحي بسلوكه، بلا تردّد، الطريق الأول. وها هي كرة “سيزيف” تمتحن قدراته في استحقاق بالغ الصعوبة. فهو حَمل صخرة انتشال التشكيلات القضائية من فمّ التنين، الذي يصادف في لبنان أنّه على شاكلة سياسيين لا يشبعون حصصاً، مالاً وعقاراتٍ، ووزراء ونواباً ومديرين عامين وقضاة.

إقرأ أيضاً: غادة عون “لغم” التشكيلات القضائية

منذ تعيينه رئيساً لمجلس القضاء الأعلى في 12 أيلول الفائت لم يوحِ عبود بتغيير سلوكياته المعروف بها في قصور العدل وخارجها. وأمام معضلة التشكيلات المتعثرة وقف كجدار حديدي فاصل بين “المتدخلين”، مع تسجيل دعم واضح غير مسبوق من وزيرة العدل ماري كلود نجم، وصولًا إلى الدعوة “للتحرّر من القيود التقليدية”.

 في النصوص القانونية لمجلس القضاء الأعلى ما يمنحه حصانة كافية، وعلى ما يبدو قرّر عبود استخدامها حتى السطر الأخير. حتّى وزارة العدل والسياسيين يقفون عند عتبته مستسلمين إن أراد أعضاء المجلس ذلك. أما رئيسه المعيّن من السلطة السياسية، فشكّل سابقة في حصد ما يشبه الإجماع عليه عند تعيينه في أرفع منصب قضائي ماروني: “هذا الرجل لن يزرع “أزلامه” في العدلية”. سبقه الصيت الحسن، مع اعتراف من “نادي القضاة”: “هو يوم قضائي مشرق متوافق مع إرادة غالبية القضاة”. كأنّه انتخاب وليس تعييناً. في ملامحه “راهب العدلية” فيليب خيرالله.  

لن يكون وصول القاضي الذي لا غبار عليه أهمية مضافة إلا حين يُقارن تعيينه بمشهد “خلع” سَلفه جان فهد من رئاسة مجلس القضاء الأعلى. القاضي الذي أتى “كالعادة” بتسوية وأجبر على التنحّي قبل الأوان. اليوم لا يزال جان فهد في السلك القضائي بتصرّف وزير العدل وسط معايرة صامتة عن قدرة البقاء بعد صدور “القرار الاتهامي” في ملف القاضي غير المناسب في المكان المناسب.

ثمّة فعل اعتراف عام بسهيل عبود. هو القاضي النزيه، الكفء، المتجرّد والمتشبّث بمواقفه طوال سيرته القضائية. في إطار عضويته السابقة للمجلس التأديبي للقضاة، صدرت  ثلاثة أحكام صرف من الخدمة ضد قضاة، مع تسجيل أنّ الهيئة العليا للتأديب التي كان يرأسها القاضي جان فهد آنذاك عادت وفسختها.

داعي القضاة إلى”المناعة العصية على أي ارتهان سياسي أو حزبي أو فئوي أو طائفي مع الانفتاح على القوى الاجتماعية الاصلاحية”، ورافع شعار “أخلاقيات القاضي أولاً”، ليس ممن يرتمون في أحضان أولياء النعمة. لم يفعلها سابقًا حتى لو عايره البعض بميله القواتي. ولن يفعلها بشهادة من يعرفه.

الحصانة الأقوى هي اللصيقة بأخلاقيات القاضي، يقول عبود. لذلك يدعو القضاة إلى عدم الغرق في الحياة الاجتماعية وفي المناسبات الناشئة عنها، وعدم المخالطة غير المبرّرة مع أصحاب النفوذ والمصالح

 قد يكون أحد قلّة من القضاة ممّن لم يضبطوا بالجرم المشهود على طاولة سياسي. بحكم حساسية الموقعين سيبدو طبيعياً أن يرصد متردّداً الى القصر الجمهوري. يعترف قاضٍ كبير: “وافق عون على تعيين سهيل عبّود بلا تردّد استناداً إلى ما يعرفه عنه. ولم يتوقّف عند من همس في أذنيه: “انتبه إنّه قواتي”.. يسخر قضاة من هذا التوصيف: “أهمّ ما في سهيل عبود أنه “فاصل” عن جميع السياسيين”.

انحسار عمله القضائي قبل تعيينه في المجالين المدني والتجاري، حصّنه أكثر من التدخلات. فهو لم يتولَّ مناصب على تماس مع “الوكر السياسي”. سيذكر له القضاة شجاعة كونه أول الداعين الى إنشاء نادٍ خاصٍ بالقضاة، في ظلّ الشبكات العنكبوتية الانتفاعية التي اجتاحت جسم القضاء. وشكّل ظهوره الأول، دون غيره من قضاة الدرجات العليا، في المؤتمر الصحافي الأول لنادي القضاة في أيار 2019، ما يشبه “الانتفاضة” على الأمر الواقع، إضافة إلى تماهيه مع المطالبات العمومية بـ”الاحتكام الى الشعب ودعوته لمؤازرة القضاة في حربهم لتحقيق استقلاليتهم ومكافحة الفساد”.

ولامس عبود الخط الأحمر الحسّاس حين ألقى محاضرة عام 2011 تفنّد فيها “مشاكل وحلول” التدخل بين القضاة وتدخلات مكوّنات السلطة القضائية وأجهزتها معهم، طالباً “ملاحقة المتدخلين ومعاقبتهم، وكذلك المذعنين للتدخلات جزائياً، وملاحقتهم ومعاقبتهم تأديبياً”.

“الحصانة الأقوى هي اللصيقة بأخلاقيات القاضي”، يقول عبود. لذلك يدعو القضاة إلى “عدم الغرق في الحياة الاجتماعية وفي المناسبات الناشئة عنها، وعدم المخالطة غير المبرّرة مع أصحاب النفوذ والمصالح، الراغبين دوماً في توثيق علاقاتهم مع القضاة لكي يتسنّى لهم عند الحاجة طلب الخدمات منهم”. في ذلك شيء من السوريالية. لكن مع ابن عين كفاع قد تصبح “كرة سيزيف” قابلة للوصول إلى أعلى الجبل.

مواضيع ذات صلة

أميركا مطمئنّة.. ونتنياهو “يسرق الوقت”

عاد الموفد الأميركي آموس هوكستين من زيارته إلى المنطقة، ووصل إلى العاصمة الاميركية أمس. وقبل أن يصل إلى واشنطن كان قد طمأن عين التينة إلى…

مبعوث ترامب إلى الشّرق الأوسط: معجب “بروحانية” نتنياهو..

تشبه الشّخصيّات التي رشّحها الرّئيس الأميركيّ المُنتخب دونالد ترامب شخصيّته الجدليّة. فهو كما فاجأ المراقبين يومَ فازَ في انتخابات 2016، وبفوزه الكبير في انتخابات 2022،…

هوكستين موفد ترامب… فهل يضغط لإنجاز الاتّفاق؟

كثيرٌ من الضبابية يحيط بمصير المفاوضات التي قادها آموس هوكستين بين لبنان وإسرائيل، أو بالأحرى بين “الحزب” وإسرئيل، عبر رئيس مجلس النواب نبيه برّي. التفاؤل…

الاتّفاق Done: إعلانه خلال أيّام.. أو أسابيع؟

بين واشنطن وتل أبيب وبيروت أصبحت شروط الاتّفاق معروفة، ولا ينقصها سوى لمسات أخيرة قد تستلزم يوماً واحداً، وقد تطول لأسابيع، أربعة ربّما. لكن ما…