حبٌ كثير لها. وهي ترقد هناك في المستشفى. وحدها، في الحجر الصحي. في بلد السعار الإعلامي. وحدها، تتنفس بصعوبة، وتنظر بعيون فزعة إلى جدران غرفة المستشفى. تفكّر ربما في أولادها. ربما في زوجها. وربما تكون غير متزوجة. ربما تفكّر في أمّها، في نظرة أبيها من خلف الزجاج. ربما تحتاج إلى يد تربّت على يدها. إلى صوت هادئ يطمئنها: سوف تنجين. سوف تنجين.
وحدها هناك، في الحجر الصحي، والبلاد مسعورة في الخارج. مسعورة على مواقع التواصل الإجتماعي. على وسائل الإعلام. تفتك بها. تفتك باسمها. تفتك بصورتها في المستشفى. تفتك في صورة جواز سفرها. تدخل إلى تفاصيلها. إلى رئتيها. إلى قصبتها الهوائية. تتغلغل البلاد في دمها. تسحب عيّنات من دمها، لتحلّل أصلها وفصلها، دينها وطائفتها، ميولها السياسية، وما تحبّ وتكره.
البلاد المسعورة وجدت ضالتها في السيدة التي شاء قدرها أن تصاب بفيروس كورونا وتكون الحالة الأولى التي يسجلها لبنان. شاء سوء حظها أن تحمل المرض. وأن تصل إلى بلاد مريضة بألف ألف مرض. وشاء سوء طالعها أن تكون الحالة الأولى. الحالة التي ينسج حولها اللبنانيون بغالبيتهم، ما لا يمكن تخيله من إشاعات وخرافات وإساءات بالجملة. الحالة، التي سيحمّلها اللبنانيون سبب انهيارهم الجماعي، وسبب أمراضهم كلها، الطائفية والإقتصادية والسياسية والإجتماعية.
وحدها، في المستشفى. بين جدران بيضاء. مربوطة إلى مصل لا تعرف ما اذا كان الدواء الذي يحتويه فاسداً أم نافعاً. وحدها، وقد سلّمت حياتها إلى دولة لا قيمة فيها للإنسان، ولا قيمة للفرد، ولا قيمة للروح، ولا قيمة للجسد. وحدها على سرير بلاد محتضرة، تحاول أن تنجو من آفات البلاد وأوبئتها. تحاول أن تنجو من فيروس “الترند” الذي يلاحقها وينتهك خصوصيتها وخصوصية عائلتها.
وحدها، في الحجر الصحي الأبيض، تسجننا كلّنا خارجها، في حجرنا الصحيّ الأسود، خارج نقائها، وخارج معاناتها الخالصة الصادقة.