بدا الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في موقف المتراجع أو المعتذر ضمناً، مرّتين، خلال خطابه الأخير. الأولى فهو تراجع عن التشاوف على اللبنانيين المفلسين. تراجع عن قوله في الأوّل من تشرين الثاني 2019 التالي: “يمكن أن يأتي وقت لا تستطيع الدولة اللبنانية أن تدفع فيه رواتب وينهار الجيش والقوى الأمنية وإدارات الدولة ويخرب البلد، لكن أنا أؤكّد لكم أنّ المقاومة ستظل قادرة على أن تدفع الرواتب، فهذه المقاومة ليست في هذا الوضع على الإطلاق”. كان ذلك في أولى أيّام ثورة 17 تشرين الأوّل.
الأحد الماضي تحدّث نصر الله عن اجتزاء كلامه: “مش إنّو والله نحن معاشاتنا وميزانيتنا وفلوسنا مؤمنة الآن بشكل أو بآخر وخلص ما في مشكلة بشيء”. وتابع: “أبداً أبداً أبداً مش هيك. نحن نحمل همّ النّاس لأن النّاس كلهم ناسنا في كلّ المناطق اللبنانية، في كلّ المحافظات، في كلّ الطوائف”.
تجنّب نصر الله الاعتذار بشكل مباشر، لكنّه تراجع بنكهة الاعتذار، من اللبنانيين المفلسين، الذين قال لهم: “نحن معنا كاش، وأنتم ستفلسون”. فالحقيقة أنّه قال ما قاله، وتراجع الأحد. هذا جيّد. نصر الله بات يتراجع، وبات يوضح، وبات يحسب حساباً للناس، بعدما كان يقول كلمته ويمشي.
الاعتذار الثاني كان من العرب. فقد اعتذر نصر الله، أيضاً بشكل غير مباشر، حين أقرّ بأنّ علاقات لبنان العربية والدولية أساسية، وبنيوية، وأنّ ربط حزبه بالحكومة يضرّ بها ويؤذي لبنان.
بعد ساعات من كلام نصر الله، وصل رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني إلى لبنان، والتقى الإثنين الرؤساء الثلاثة، وقيل إنّه التقى نصر الله سرّاً
الأحد قال نصر الله الآتي: “تسمية هذه الحكومة بحكومة حزب الله… يؤذي علاقات لبنان العربية والدولية”. هذا الكلام لو قاله أيّ لبنانيّ غيره، أيّاً كانت طائفته، خصوصاً إذا كان شيعياً، ستحلّ عليه اللعنة السياسية ويصير “خائناً” و”عميلاً صهيونياً”. لكن حين يقوله نصر الله، فهو يتبعه بكلام من نوع: “اعمل معروف أنت تقوم بعملية تحريض كاذبة تسيء لعلاقات لبنان العربية والدولية عندما تصف هذه الحكومة بأنها حكومة حزب الله وأنت تعرف أنّها ليست حكومة حزب الله”.
يعرف نصر الله أنّه يؤذي لبنان. مجرّد ذكر اسم حزبه يسيء إلى لبنان، لكنّه أصرّ على تشكيل حكومة صافية له، ولحلفائه الخلّص. نصر الله، وقبل دقائق، كان وصف البحرين بأنّ “حكّامها المستبدين والفاسدين حوّلوها إلى قاعدةٍ للتطبيع مع العدوّ الصهيوني وللتآمر على القضية الفلسطينية ومقدسات الأمة”. وقبلها كان هاجم المملكة العربية السعودية في أكثر من مكان، وأكثر من مرّة. لكنّه يعيب على معارضي الحكومة أن يتحدّثوا عن “حكومة حزب الله”.
بعد ساعات من كلام نصر الله، وصل رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني إلى لبنان، والتقى الإثنين الرؤساء الثلاثة، وقيل إنّه التقى نصر الله سرّاً. وأعلن أنّ “إيران مستعدّة للتعاون مع لبنان في المجالات كافّة”.
هذا هو لبنان الذي يمكن لنصر الله أن يقدّمه لنا: يبدأ بالخميني، وينتهي بقاسم سليماني، وبينهما علي لاريجاني مع رؤسائه الثلاثة.
هذا اللبنان، الذي يستقبل الداخلين إليه من مطار الرئيس رفيق الحريري بعنوان “جادة الإمام الخميني”، ويودّع العابرين في سماء الجنوب، بتمثال قاسم سليماني، الذي نصبه حزب الله في مارون الراس قبل أيّام.
هكذا يسوّر حزب الله لبنان، من مدخله الرسمي، إلى حدوده الخطيرة، ويبدو معزولاً، لا سياحة ولا صناعة، ولا أصدقاء، غير لاريجاني.