هل يريد حزب الله “صندوق النقد”؟

مدة القراءة 5 د


أيّام قليلة ستعدّها الأسواق ساعة ساعة قبل أن يحين الاختبار المفصلي أمام حكومة حسان دياب، مع استحقاق إصدار السندات الأجنبية (اليوروبوندرز) الحكومية بقيمة 1.2 مليار دولار في التاسع من آذار المقبل.

سيكون على الحكومة أن تقررّ ما إذا كانت ستلجأ إلى احتياطيات مصرف لبنان مرة أخرى لسداد الاستحقاق في موعده، أم ستعلن تجميد السداد (moratorium) وتطلق مسار التفاوض لإعادة هيكلة الدين على الفور. وسيكون عليها أن تقرّر ما هو أهم: من سيتحمل الثمن؟

التعامل مع لحظة الحقيقة تلك سيكشف نمط العلاقة بين القوى السياسية التي شكّلت الحكومة، والوجوه الإختصاصية التي دفعت بها إلى واجهة الحكم. وستّتضح كيفية صناعة القرار الإقتصادي، وحجم المساحة المُعطاة لفريق التكنوقراط لاتّخاذ القرارات الإقتصادية الكبرى، من وزن اللجوء إلى صندوق النقد الدولي من عدمه، أو الخصم من ودائع عليّة القوم من عدمه.

إستحقاق السندات الحكومية في 9 آذار سيشكل الإختبار الأول لحكم التكنوقراط

في الشقّ التقني المحض، ثمّة إجماع على أنّ إعادة هيكلة الدين العام لم تعد خياراً، بل إنّ الخيارات (المحدودة) تتعلق بكيفية إدارة العملية بأقلّ وجع ممكن، في السياسة والاقتصاد. وهي لا تخرج نظرياً عن ثلاث:

1. الإقتراض من صندوق النقد الدولي، ما يقتضي إطلاق برنامج للتعديل المالي (fiscal adjustment program) وفق شروط الصندوق. المشكلة في هذا الخيار أنه مكلف شعبياً إلى حدّ قد لا تتحمله حكومة ذات لون واحد.

فما من شكّ أنّ أولى شروط الصندوق ستكون إصلاح نظام سعر الصرف والقضاء على السوق الموازية، إن لم يكن تحريره بالكامل. ولا شكّ أيضاً أنّ الصندوق سيشترط إصلاح نظام الدعوم (subsidies) مع توفير شبكة أمان اجتماعية بديلة (social safety network)، ما يقتضي حتماً رفع أسعار الكهرباء. هذا قبل الوصول إلى مسائل أخرى جدلية، مثل زيادة الضرائب والخصخصة وإصلاح القطاع العام.

2. الحصول على مساعدات دولية استثنائية، على طريقة مؤتمر باريس-٢، (وليس “سيدر”)، لتمكين الدولة من سداد الإستحقاقات الخارجية ومفاوضة البنوك الحاملة للدين المحلي من موقع قوّة، والعودة إلى أسواق الدين بشروط أفضل. هذا الخيار يبدو متعذّراً في الظرف السياسي الراهن، ولو أنّ أهل الدولة ما زالوا يأملون.

3. إعادة الهيكلة “بالشروط التجارية”، أي بالتفاوض حصراً بين الدولة ودائنيها من دون مساعدة استثنائية من دول أو من جهات مانحة. مثل هذا الخيار لن يكون سهلاً، لأنّ من الصعب جدا الحصول على شروط جيدة في التفاوض مع الدائنين من دون برنامج للتعديل المالي ينال شهادة حسن التدبير من صندوق النقد الدولي. ناهيك عن أنّ هذا الخيار سيجبر البنوك على عملية رسملة كبرى قد تؤدي إلى “هيركت” من ودائع العملاء، أو كبارهم على الأقل.

يميل أهل الحرفة إلى اللجوء لصندوق النقد الدولي، فيما تبرز إشارات إلى أنّ الخيار الثالث يستهوي “حزب الله”. لكنّ مأزق “حزب الله” أنّ الرفض الحاسم للجوء إلى “صندوق النقد” سيفرض مواجهة من نوع آخر مع مراكز قوى محلية، من أصحاب المصارف وكبار المودعين الذي سيقع على عاتقهم عبء أكبر في هذه الحال، على شكل اقتطاع من الودائع أو وزر ضريبي ثقيل. فهل آن أوان هذه المواجهة؟

في فضاء الحزب أصوات كثيرة تتحدّث منذ سنين عن ضرورة أن تدفع المصارف غرم الأزمة، بعد أن جنت غنمها. وكان واضحاً منذ بداية الأزمة الراهنة سعي الحزب لتحويل النقمة نحو البنوك، بشعار عريض يرمي إلى أن “يسقط حكم المصرف”، وهو شعار لا يمكن ترجمته عملياً إلاّ باقتطاع جزء من الدين العام الذي تحمله المصارف.

يمكن ربط هذا التوجّه بشيء من التحركات ذات الصبغة الواضحة أمام مصرف لبنان، والموجة الأولى من التظاهرات أمام المصارف. كما يمكن ربطه بملف العقوبات الأميركية على الحزب، بما هي مادة قديمة للتوتر منذ ما قبل الانفجار أمام مقرّ “بنك بلوم” قبل نحو أربع سنوات.

هل يقود ذلك إلى المواجهة بين “حزب الله” وفريق التكنوقراط في الحكومة؟

يجد “حزب الله” نفسه منخرطاً في القرار الإقتصادي إلى حدّ غير مسبوق. ليس واضحاً إن كان يرى في الأمر فرصة أم ورطة

يتعلّق الأمر بمدى رغبة الحزب بالانخراط في القرار الاقتصادي وتحمّل مسؤوليته. كما يتوقف على مدى مرونة الفريق الحكومي في التعامل مع ما قد يضعه الحزب من خطوط حمر أو صفراء.

غير أنّ المعني الأول بتحديد اتجاهات الحكومة المالية، وزير المالية غازي وزني، لم يعطِ إشارات واضحة بما فيه الكفاية إلى ما ينوي فعله. وهذا مفهوم، لأن قراراً كبيراً كهذا لا يمكن الكشف عنه، صراحة أو تلميحاً، قبل اختبار المياه السياسية واستطلاع موقف مصرف لبنان، وبناء الملف التقني.

لبّ القضية في مكان آخر. فالتجارب تشير إلى أنّ الحكومات التي ترتضي تجرّع كأس اللجوء إلى صندوق النقد غالباً ما يعاقبها الناخبون. وفي لبنان بالذات، ما لم تحمله حكومة “الوحدة الوطنية” ليس من السهل أن تحمل أثقاله حكومة اللون الواحد.

في غمرة الأزمة، يجد “حزب الله” نفسه منخرطاً في القرار الإقتصادي إلى حدّ غير مسبوق. ليس واضحاً إن كان يرى في الأمر فرصة أم ورطة.

مواضيع ذات صلة

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…

استراتيجية متماسكة لضمان الاستقرار النّقديّ (2/2)

مع انتقالنا إلى بناء إطار موحّد لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، سنستعرض الإصلاحات الهيكلية التي تتطلّبها البيئة التنظيمية المجزّأة في لبنان. إنّ توحيد الجهود وتحسين…

الإصلاحات الماليّة الضروريّة للخروج من الخراب (1/2)

مع إقتراب لبنان من وقف إطلاق النار، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء إطار متين وفعّال للامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. تواجه البلاد لحظة محورية،…

لبنان “البريكس” ليس حلاً.. (2/2)

على الرغم من الفوائد المحتملة للشراكة مع بريكس، تواجه هذه المسارات عدداً من التحدّيات التي تستوجب دراسة معمّقة. من التحديات المالية إلى القيود السياسية، يجد…