يتقاتل القادة الموارنة، تاريخياً، على رئاسة الجمهورية.
كلّ ماروني يولد رئيساً، إلى أن يثبت العكس. ويعيش اللبنانيون حروباً وصراعاتٍ ويفقدون سنواتٍ وسنواتٍ من أعمارهم، ليثبت العكس.
خسر الموارنة جمهوريتهم بسبب اقتتالهم على رئاستها. منذ الأربعينيات إلى الخمسينيات وصولاً إلى الحرب الأهلية ومعاركها الأخيرة في “الشرقية”، دُمّرت الجمهورية، وخسر الموارنة امتيازاتهم في بنية النظام اللبناني. تراجع دور المارونية السياسية، لصالح نظام يحكمه المسلمون، سنّة وشيعةً، ويديره النظام السوري.
إقرأ أيضاً: حزب الله لفرنجية وباسيل: لم يحن وقت الرئاسة
كان الرئيس رفيق الحريري عنوان الحكم، في الاقتصاد والسياسة، وكان حسن نصر الله عنوان السياسة في الأمن والعسكر.
لم يتمكّن المسيحيون، وتحديداً الموارنة، من نسخ وحدة الصف الشيعي السياسية، في تحالف “أوعى خيّك”. ولا فعل السنّة، الذين يغرقون في الحيرة بين سعد الحريري الآفل، والبديل غير الواضح.
الرئاسة الأولى كانت وستبقى مدار صراع وتجاذب دائم بين الموارنة، بتياراتهم وأحزابهم، أو بشخصيات مارونية تتمتع بعلاقات داخلية وخارجية، أو تبوّأت وظائف الفئة الأولى في الدولة. مشكلة الرئاستين، الأولى والثالثة، أنّهما تحوّلتا إلى خاتم في إصبع الشيعية السياسية، ومن يطمح لبلوغ أحد المقعدين، عليه أن يقدّم أوراق اعتماده أمام حزب الله.
التنافس على رئاسة الجمهورية في الساحة المسيحية، يركّز في أحد أبرز وجوهه حول من يتقرّب أكثر من حزب الله، ومن يحظى بثقته ودعمه أكثر من غيره، ومن يوفّر له الغطاء اللازم في المقابل. المعادلة نفسها تنطبق على السنّة الطامحين للوصول إلى رئاسة الحكومة، وهذا يخضع لمعيار الواقعية السياسية.
ولئن فُتحت باكراً معركة رئاسة الجمهورية، فقد جدّد سليمان فرنجية خوضها في مؤتمره الصحافي يوم الإثنين، علماً أنّه يفعل بمفعول رجعي. فالاعتقاد السائد والواقعي في لبنان أنّ أوّل من افتتح المعركة الرئاسية باكراً هو رئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل مدعوماً من الرئيس ميشال عون. سواء بأحد تصريحات عون قبل أكثر من سنة عن حقّ باسيل بطموح الوصول إلى رئاسة الجمهورية وأنه الممثّل المسيحي الأكبر، أو خلال الزيارة إلى روسيا واللقاء مع الرئيس فلاديمير بوتين وما سرّب يومها حول محاولة عون الحصول على دعم روسي في معركة باسيل الرئاسية، التي تنطلق من حسابات عنونها باسيل بـ”التحالف المشرقي” مع موسكو، انطلاقاً من النفوذ الروسي في سوريا والذي سينعكس بشكل مباشر على لبنان.
المعركة الرئاسية الباكرة التي فتحها باسيل بشكل غير مباشر، أخذ فرنجية على عاتقه خوضها مباشرة. منطلقاً من حسابات تغيّر موازين القوى في السنتين المقبلتين، ومن تراجع شعبية التيار الوطني الحرّ بسبب وجوده في السلطة وممارساته، والتصدّعات التي تعصف به، ومستنداً إلى علاقات قوية تجمعه بمختلف القوى السياسية، لا سيما تيار المستقبل، حركة أمل، الحزب التقدمي الاشتراكي، وحزب الله. يعتبر فرنجية أنه يتقدّم على باسيل بالنقاط السياسية، وليس بالضرورة أن يتقدّم عليه بالأرقام والأعداد. ويستند فرنجية إلى علاقات جيدة نسبياً مع عدد من الدول العربية والغربية المؤثرة.
في المعطى السياسي، تنحصر المعركة الرئاسية بين فرنجية وباسيل، في ظلّ تسليم القوى السياسية على اختلافاتها بأن الرئيس الذي سينتخب سيكون من قوى 8 آذار ومن حلفاء حزب الله
في المقابل، يرتكز باسيل على الغطاء المسيحي الواسع الذي يوفّره لحزب الله، وعلاقته الاستراتيجية معه، كما يرتكز على شعبوية سيعيد إنتاجها وفق ما يحضّر على الساحة المسيحية، ليفوز مجدّداً بأكبر كتلة في المجلس النيابي، لعلّ ذلك يكرسه قوة معطّلة لأيّ انتخابات رئاسية لا تتلاءم مع حساباته. كما يستمر في البحث عن صيغة لتسوية علاقاته الدولية، لا سيما مع الأميركيين، منذ إطلاق سراح عامر الفاخوري، إلى رهانات أخرى، يستمدها من كلمة مفتاحية أطلقها ذات يوم حول عدم وجود مشكلة أيديولوجية مع إسرائيل، وحقها بالعيش في سلام ولكن بدون الاعتداء على أحد. داخلياً أيضاً يرتكز باسيل على قوة وسلطة عهد عون، للسيطرة أكثر على الدولة بكلّ مؤسساتها ومواقعها الأساسية، لتكون هذه رافده الأساسي في أيّ معركة انتخابية برلمانية أم رئاسية.
في المعطى السياسي، تنحصر المعركة الرئاسية بين فرنجية وباسيل، في ظلّ تسليم القوى السياسية على اختلافاتها بأن الرئيس الذي سينتخب سيكون من قوى 8 آذار ومن حلفاء حزب الله. إلا أنّ الحسابات الرئاسية غالباً ما ترتبط بحسابات إقليمية، تفرض الشخصية التي يجب أن تطبع بسمتها الولاية الرئاسية. الأمر يتعلّق بالظروف والتطوّرات، التي قد تفرض مثلاً المجيء برئيس للجمهورية من بطانة رئيس الحكومة حسان دياب، لا يتمتع بشعبية. هنا يكثر المرشّحون، وستكثر معهم المشاكل. لذلك كان باسيل قد استبق في معركته هذا السيناريو، من خلال إحراق ممنهج لمنافسين أساسيين له، كحاكم مصرف لبنان، فيما المعركة مفتوحة مع قائد الجيش، وكذلك رفض تولية دميانوس قطار وزارة الخارجية، خوفاً من بنائه لشبكة علاقات تنطلق من الفاتيكان، يعتقد أنها تمنحه ثقة دولية قد تقرّبه من طريق بعبدا.
يتقاتل المسيحيون على رئاسة فوق أنقاض جمهورية، كما يتناحر السنّة دون ضجيج على رئاسة حكومة، سُلبت صلاحياتها وطوّقت قدرتها على التأثير والتغيير والتقرير.
هل من يُنقذ الرئاستين الأولى والثالثة من براثن الصَرَع السياسي؟
لا جواب قبل سنة. وللحديث صلة.