الحزب: شمبانيا وعسل

مدة القراءة 5 د

من مفارقات “السياديّين والكرامتيّين” الجدد، المبالِغين في الحرص المزيّف على المفردات الوطنية النبيلة، أنّهم يرفضون الشروط السعودية، إن وجدت، ويرتضون العيش في ظلّ شروط ميليشيا حزب الله.

الحقيقة أنّه لا توجد شروط سعوديّة محدّدة آنيّة وتفصيليّة، يمكن بعد تحقّقها أن تعود الأمور بين بيروت والرياض إلى نصابها الطبيعي. إذا كان من شروط سعوديّة، فهي شروط عامّة، يشترطها اللبنانيّون أوّلاً على أنفسهم وعلى سياسيّيهم. وهي شروط بلد طبيعيّ قادر على توفير ظروف الحياة الكريمة لناسه.

من مفارقات “السياديّين والكرامتيّين” الجدد، المبالِغين في الحرص المزيّف على المفردات الوطنية النبيلة، أنّهم يرفضون الشروط السعودية، إن وجدت، ويرتضون العيش في ظلّ شروط ميليشيا حزب الله

الرافضون للشروط السعودية، بكرامات وهميّة منتفخة، هم العائشون في كنف شروط السلاح غير الشرعيّ، والذين كلّما انكشفت إلى العلن دواخلهم العميقة، نطقوا بما هو أشدّ من أشدّ المواقف المُعلَنة لخصوم ميليشيا حزب الله.. بيد أنّهم يأنسون للذمّيّة والباطنيّة وتقبيل اليد التي يعجزون عن كسرها.

آخر الكاشفين عن دواخلهم هو وزير الخارجيّة عبدالله بوحبيب، في تسريب صوتيّ نشرته “عكاظ” لحديث بين الوزير وطاقم الصحيفة السعوديّة في بيروت.

أصاب بوحبيب في وصف حزب الله بالمرض الذي يهدّ الجسم اللبناني، والذي لا حول للجسم حياله ولا قوّة إلّا التسليم بشروطه والتعايش مع آلامه. حزب الله إذاً ليس عنواناً للكرامة الوطنيّة والتحرير والعزّة وبقيّة البدائل اللغوية التي يغطي بها حزب الله مآثره في جلب الانكسار والذلّ والهزيمة، أقلّه انكسار اللبنانيين وهزيمتهم أمام وحوش الفساد والفشل والانهيار الاقتصادي. حزب الله مرض، بحسب توصيف وزير يرتاح له الحزب ويوافق على توزيره في وزارة حسّاسة، في حكومة كانت له اليد العليا في تشكيلها ومنحها الثقة.

ولا يمانع الوزير “الممانع”، والضيف الدائم على قنوات حزب الله ومنصّاته، بوصفه الصوت المسيحيّ الذي يخاطب الغرب بحسنات حزب الله والموجبات الشرعيّة لوجوده واستمراره، لا يمانع أن يَستأصل مرضَ حزب الله مئةُ ألفٍ من المارينز، متبرّعاً هو “بشمبانيا الاحتفال”… ولأنّ ثلث المزاح جدّ، فإنّ ما عناه الوزير بوحبيب ينطوي على أمرين: الاعتراف الصريح بأنّ حزب الله مشكلة وليس حلّاً، وأن لا مانع من حلّ المشكلة إن كان عاتق حلّها يقع على غير اللبنانيين. وقد سبق لرئيس الجمهورية اللبنانية أن وصف حزب الله بعبارات شبيهة، معتبراً إيّاه مشكلة، وذلك في أول إطلالة له مع صحيفة “الشرق الأوسط” السعوديّة في بواكير عهده، وخلال زيارته الخارجيّة الأولى التي كانت الرياض محطّتها.

أمّا رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، فلم يتردّد في القول إنّ الكلمة العليا هي لحزب الله، جواباً على سؤال صحافيّ عن توازنات الواقع السياسي في لبنان.

ولو عدنا إلى مغارة ويكيليكس لوجدنا العجب العجاب من التصريحات التي أين منها تصريحات بوحبيب؟!

عرضت إحدى الوثائق حديثاً جرى أثناء حرب تموز بين الرئيس نبيه برّي والسفير الأميركي في بيروت آنذاك جيفري فيلتمان حول الحرب، وصف فيه برّي موقفه من الغارات الإسرائيلية على طريقته الساخرة: “أحبّ القليل من العسل، لكنّك إذا تناولت كامل الجرّة فستمرض!”، ثمّ أرجع رأسه إلى الخلف مطلقاً ضحكة صاخبة، قالت الوثيقة. وقال فيلتمان: “لقد رسم الرئيس بري خطّاً رفيعاً بين ما هو كافٍ من العمليّات الإسرائيلية وبين ما هو كثير”.

أمّا الزعيم الدرزي وليد جنبلاط فتنقل عنه ويكيليكس أنّه، في خلال جلسة أعقبت خطاب “النصر الإلهي”، قال لضيوفه، وبينهم السفير الأميركي، إنّ “الإسرائيليين مستعجلون أكثر من اللزوم للانسحاب” لأنّه “ما إن يخرج الإسرائيليون من لبنان حتى تُزاح نقطة ضغط أساسية عن حزب الله”، معتبراً أنّ “حزب الله ليس بمزاج يسمح له بمهاجمة الجيش الإسرائيلي حتى في داخل لبنان، لكنّ إبقاء الإسرائيليين في الداخل سيكون مصدر إحراج لحزب الله”.

وتنضح الوثائق المسرَّبة بتقييمات شيعيّة قاسية لحزب الله الذي وصفه أحد الوزراء بأنّه “يظنّ نفسه أكبر من صلاح الدين، وأكبر منّا كلّنا”، إلى جانب أحاديث واضحة تربط بين حزب الله وبين السيّارات المفخّخة في سياق صراع الحزب وسوريا مع المحكمة الدولية.

آخر التسريبات الحديثة كلامٌ لوزير آخر خلال الصيف الفائت، اُقتُطِع من ندوة شارك فيها عبر منصّة “كلوب هاوس”، واعتبر فيه أنّ تصريحات حسن نصرالله عن التوجّه شرقاً “تعفيس وهوبرة”، وأنّ “البنزين من إيران حكي خطابات”، الأمر الذي أثار عاصفة ردود قاسية في وجهه.

هذا غيضٌ من فيض السرديّة غير المعلنة لموقف اللبنانيين من ميليشيا حزب الله. وما قاله الوزير بوحبيب هو القول الأكثر صدقاً في كلّ ما صدر عنه. في التحليل الأخير، لا صديق حقيقيّ لحزب الله إلا قلّة من العقائديّين الشيعة، في حين تتحلّق حوله دوائر أوسع من الخائفين، والمتأقلمين، والانتهازيّين، الذين سيتركونه عند أولى علامات الضعف التي يشتهونها بكلّ ذرّة من ذرّات وجودهم.

إقرأ أيضاً: 100 ألف مارينز.. وخلصونا

من عسل برّي إلى شمبانيا بوحبيب، نحن أمام عالم سفليّ من المواقف السياسية يشبه ذلك الذي ينمو في أعتى الديكتاتوريّات، وهو ما يجعل من فكرة الديموقراطية في لبنان فكرة تافهة، لأنّها لا تعكس إرادات فعليّة بقدر ما تعبّر عن ميزان القوى في نظام القهر الذي يتسيّده حزب الله.

إسقاط هذا النظام بالانتخابات وهمٌ خالصٌ، والمقاطعة السعوديّة هي مجرّد بداية طريق طويل نحو قعر جديد من جهنّم، قبل بداية الصعود نحو الضوء، إن حالفنا الحظّ!

مواضيع ذات صلة

كريم خان يفرّغ رواية إسرائيل عن حرب “الطّوفان”

تذهب المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي إلى المسّ بـ “أبطال الحرب” في إسرائيل، رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع المقال يوآف غالانت. بات الرجلان ملاحَقَين…

هل يريد بايدن توسيع الحروب… استقبالاً لترامب؟

من حقّ الجميع أن يتفاءل بإمكانية أن تصل إلى خواتيم سعيدة المفاوضات غير المباشرة التي يقودها المبعوث الأميركي آموس هوكستين بين الفريق الرسمي اللبناني والحزب…

مواجهة ترامب للصين تبدأ في الشّرق الأوسط

 يقع الحفاظ على التفوّق الاقتصادي للولايات المتحدة الأميركية في صميم عقيدة الأمن القومي على مرّ العهود، وأصبح يشكّل هاجس القادة الأميركيين مع اقتراب الصين من…

الحلّ السعودي؟

ينبغي على واشنطن أن تُدرِكَ أنَّ المملكة العربية السعودية الأقوى تَخدُمُ الجميع، فهي قادرةٌ على إضعافِ قوّةِ إيران، كما يُمكنها أن تدفع إسرائيل إلى صُنعِ…