إذا تكلّمت الكويت… فأنصتوا

2021-11-11

إذا تكلّمت الكويت… فأنصتوا

العلاقة مع الكويت لا تُقارَب على سجيّة الأحاديث الناعسة التي تعقب ملء البطون. ويلاه ما أضيق عقولكم حين يظنّ الظانّ فيكم أنّ الإجراءات المستجدّة لا تعدو كونها تضامناً مع شقيقات لها في خليج العرب، بمقدار ما هو صوت صارخ وموقف مدوٍّ، وحالنا في ذلك حال مَن يمضون في طريق لا يعرفون منه عودة.

في عُرف العرب، ثمّة عيبٌ قد لا يطوله عيبٌ، وهو أن تفلت منك الطريدة بعد أن تراها. وثمّة أيضاً نخوة ومروءة وشهامة قد عزّ على العالمين نظيرها. هذا ما أخبرتنا به الكويت بالفعل والممارسة. وهي إذ كانت تتغافل عمّا فعله ويفعله شذّاذ الآفاق من طعن مستدام في خاصرتها، فإنّما أرادت أن تُلفت عنايتنا إلى أنّها رأت طريدتها منذ باكورة الاعتداءات التي طاولتها، لكنّها شاءت أن تتغافل، وأن تحتضن عيوب قومنا بنخوة العرب ومروءتهم، وهي ما زالت تستنسخ السياسة عينها على مدى نصف قرن، منذ ما قبل التفجيرات الدامية عام 1983، مروراً بخطف الطائرات وتدبير الاغتيالات، وصولاً إلى عشرات الخلايا النائمة والمستيقظة، والتي ما بدأت بخليّة العبدلي وما انتهت بمثيلاتها.

لم تتحصّن الكويت يوماً خلف لامبالاتها. كانت تصل إلى مصابنا وجرحنا حتى قبل أن نبادر إلى طلب سيارة الإسعاف. فعلت ذلك على الدوام. أرادت كلّ ذلك لأنّها أحبّتنا بصدق

تعرفنا الكويت كما تعرف ظاهر كفّها. نتقاسم معها لعنة الجغرافيا ولعنة التاريخ. نجلس معاً على مقعد واحد في مقدّم الدول التي دفعت من كيسها ضريبة التوسّع والتمدّد والاعتداء وجيرة المجانين. عرفت أنّ الصبر نصف السياسة، وأنّ الحنوّ الذي سألته في أيام صقيعها قد استحال دفئاً تُوزّعه على كلّ مستغيث ينشدها العون ولو بصرير أسنانه. كانت تلك الكويت التي طالما قرأت همومنا في وجوهنا، وما شاءت يوماً إلا أن تكون لنا حضناً وإزراً وكتفاً نستند إليه كلّما عصفت العاصفة فوق رؤوسنا المتعبة.

لم تتحصّن الكويت يوماً خلف لامبالاتها. كانت تصل إلى مصابنا وجرحنا حتى قبل أن نبادر إلى طلب سيارة الإسعاف. فعلت ذلك على الدوام. لا لسياسة لها في بلادنا. ولا لهدف أو مصلحة أو رغبة في بسط نفوذها وإعلاء كلمتها. أرادت كلّ ذلك لأنّها أحبّتنا بصدق. وتعاطفت معنا بصدق. ولم تكن لتتركنا وهي تعضّ علينا بنواجذها، كلّما عضّت الأزمات بأنيابها جسد بلدنا المنهك والطريّ.

قابلتنا الكويت دائماً برحابة صدرها. ردّت على الإساءة بالغفران، وعلى التطاول بالترفّع، وعلى الاعتداء بالصبر والحكمة وتهدئة الخواطر. كانت كَمَنْ يوزّع علينا الحبّ المجّانيّ في كلّ اتجاه، فيما أمعن البعض منّا في استهدافها وإصابتها على نحوٍ مؤلمٍ وعميق. لم يتركوا مذّاك حراماً إلّا وانتهكوه. لكنّها طالما واظبت على مواجهة ما شهروه من خناجر في ظهرها، بإلقاء سيوفها جانباً حتى يأكلها الصدأ.

تلك أيّام خلت، تقول لنا الكويت بعدما بلغ بها السيل الزبى. هذه هي الحقيقة التي لا نودّ سماعها. بل نخشى استيعابها والتسليم بها. لا لذعرٍ أصاب عميق نفوسنا وحسب، بل لجزمنا أنّ الأقوام التي تخسر صديقاً وشقيقاً وحليفاً كالكويت، فإنّما تحفر في ذلك قبوراً لا تملؤها إلا جثث أوطانها.

إقرأ أيضاً: حول علاقات لبنان العربيّة

إن رُمْتُم الحقّ، والحقّ هنا كقرص الشمس، فإنّ شيئاً ممّا نعاني لن يلامس كبد الأزمة وهولها كما إجراءات الكويت، وهي إذ تفعل فعلتها هذه بعد صبر وأناة وانقطاع نفسٍ، فإنّنا نجد في ذلك مقتلة تفوق مفاعيلها المباشرة في السياسة وفي الاقتصاد، وتتخطاها جميعاً إلى حقيقة رهيبة نخشى أن نعترف بها بعدما دلّنا العالم عليها بكلّ أصابعه، وهي أنّ بلادنا لا تعاني الاختناق أو الموت السريريّ وحسب، بل لربّما ماتت، ومات معها كلّ شيء.

إذا تكلّمت الكويت فأنصتوا.

كيف الحال إذن وقد صرخت وهي كاسفة البال؟

مواضيع ذات صلة

هكذا وصلت إسرائيل إلى “البايجرز” واللاسلكيّ

في 7 أيلول الجاري، كان قائد “المنطقة الوسطى” في الجيش الأميركي الجنرال إريك كوريللا في إسرائيل. في اليوم التالي، تمّت عملية مصياف. أكبر عملية إسرائيلية…

من يملك شجاعة الاعتراف “بالهزيمة” التقنيّة؟

.. علينا جميعاً وفي مقدَّمنا الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله أن نمتلك الشجاعة والجسارة للقول إنّ العدوّ الإسرائيلي هزمنا تقنياً ويتفوّق علينا في…

المرشد في استحضار التّاريخ دون المستقبل

“غد بظهر الغيب واليوم لي     وكم يخيب الظنّ بالمقبل ولست بالغافل حتى أرى         جمال دنياي ولا أجتلي لبست ثوب العيش لم أستشِر    وحرت فيه بين…

لبنان… الرأي قبل شجاعة الشجعان

لم يكد دخان ونار التفجيرات الصغيرة في أجهزة النداء القديمة، المعروفة باسم “بيجر” يهدآن، حتى اندلعت موجة نارية جديدة، مستهدفة هذه المرة أجهزة الجوال، وغيرها…