سلمى مرشاق سليم سيدة كل الأعوام

2021-12-31

سلمى مرشاق سليم سيدة كل الأعوام

“الناس الحضاريون يتحاورون، يتناقشون، من الممكن أن يختلفوا في الرأي، لكن ليس اللجوء إلى السلاح هو الحل”. نحن أناس حضاريون، ولسنا حيوانات في الغابة… الحيوانات في الغابة تأكل بعضها”.

(سلمى مرشاق سليم)

في قلب كل أزمة بصيص ضوء نعثر عليه أن بحثنا عنه، وفي الأزمات بقعة ضوء. حتّى في قلب الكارثة ثمّة ما ينظر إليه بإيجابيّة، ولو محدودة، إيجابيّة يمكن أن تعوض جزئياً هول الخسارة.
خلال مُتابعتي جريمة اغتيال لقمان سليم، وقعت على كنز لم أكن أعرفه سابقاً. اكتشاف جديد، إنسان جديد، من زمن مضى، من زمن القيم، والثقافة، والحضارة، بل يمكن القول من زمن الإنسانيّة التي تناقض الهمجيّة السائدة حاليّاً.
وبقدر ما تأثّرت سلباً في الجريمة، تحوّل بعض اهتمامي إلى الوالدة، الإنسانة، المثقّفة، المؤمنة، الواعية. انها السيدة سلمى مرشاق سليم، النبيلة التي عوض أن تدعو إلى الانتقام، الى الحقد، الى الرفض، سألت القتلة: “ماذا استفادوا؟ أضاعوا طاقة كانت موجودة للبنان”. حاولت التفريق بين ثقافتين، واحدة عبرت عنها بقولها “نحن تربينا أن العلم والفكر والأخلاق أهم حاجة. الدنيا تعارضنا فننكفئ، ونجلس في بيتنا نقرأ”، وأخرى كان القتلة يمثلونها قوامها رفض الآخر وإعدامه.

السيدة سلمى، التي تنتمي اجتماعياً لـ”شوام مصر”، اي اهل بلاد الشام الذين هاجروا الى مصر، هي نتاج تلك الثقافة المتنوعة، المركبة في هويتها من عناصر عدة، من أبويين مسيحيين، من دولتين مختلفتين، لترتبط تالياً بمسلم شيعي، دون أن يُشكل لها الإنتماء الديني والطائفي حاجزاً يحول دون أن تكون شخصيتها الخاصة، وتربي أبناءها في أجواء مدنية، علمانية، تتصف باحترام الآخر، وتنوع الثقافات.

من مواليد القاهرة، جذورها من جهة الأب إلى قرية النبك السورية، ومن جهة الأم إلى قرية جون (الشوف – لبنان)، وقد نشأت وتعلمت في مصر، زمن العز، والتفاعل، والثقافة، في مصر الحضارة الممتدة عبر التاريخ. أثّر فيها انتماء والدها إلى الكنيسة البروتستاتنيّة الثائرة على التقاليد، والاحتفاليات التي تعيشها الكنائس الكاثوليكيّة. علماً أنّها اضطرّت إلى المزاوجة بين الاثنتين، إذ كانت والدتها الكاثوليكيّة تصطحبها إلى الكنيسة أيضاً. لكن هذا التفاعل صبَّ في مصلحة الأكثر انفتاحاً إذ درست في المعهد الأميركي في الجامعة الأميركية في القاهرة، قبل أن تتزوّج بمسلم شيعي في لبنان.
كيف تعرّفت إليه؟ تُجيب في دردشة خاصة، “كنّا نصيِّف في بلودان، ننتقل من القاهرة إلى حيفا عبر القطار، ومن هناك تقلّنا سيارة تاكسي إلى بلودان، ومن ثمّ إلى بيت مري حيث كان الطقس ملائماً أكثر لصحّة والدي. وفي فندق بيت مري تعرّفت إلى المحامي الشاب محسن سليم، وكنت أعدُّ العدّة للانتقال إلى نيويورك. لكن اعجابي به، وهو يكبرني بنحو 18 سنة، دفعني إلى الارتباط ، والبقاء في لبنان”.

وإلى حارة حريك تلك البلدة الوادعة المختلطة والمتعدّدة، التي لا تزال تقيم فيها منذ زواجها عام 1958، وتشاهد اليوم وفق رؤوف قبيسي “وبعين الحسرة، كيف تبّدلت الظروف، وكيف أن المكان الذي وفدت إليه من القاهرة وهي بعد صبية بروتستانتية قد تغير، وصار لوناً واحداً بعدما كان ألواناً! مهما يكن من أمر لوعة ذكرى تلك الأيام الماضية، إلا أنها لم تفل من عزم صاحبة الدار، أو تأسر روحها الطليق. صبرت وثابرت، وبدأت تقرأ وتبحث وتكتب وتتأمل. لم تجنح إلى الكسل، أو تفعل ما يفعله بعض الكتاب والكاتبات من عمرها، يلوذون بالصمت، ويلجأون إلى مساكن لا يبرحونها، يمضون الوقت في كتابة المذكرات والنثر والقصائد.”
ظلت سلمى مرشاق سليم تعمل كصبية فتية. لم تحل المسافات، ولا العمر المديد، بينها وبين التردد إلى الجامعة الأميركية، والجامعة اليسوعية، والمعهد الألماني للبحوث الشرقية. أمضت سنوات تقصد مكتبات هذه المعاهد. تنظر في الكتب والصحف والمجلدات، تراجع وتبحث، وإذا الحصاد محصول وفير.
الغربة النفسية والاجتماعيّة حاليّاً في حارك حريك، لم تحل دون استمرارها في العطاء، وهي تطبّق ما تردّده “الدنيا تعارضنا فننكفئ، ونجلس في بيتنا نقرأ”. وهذا ما تفعله اليوم رغم كل الضيقات. لكنّها في الوقت نفسه لا تنسى أيّام العز، وتكيّفها مع بيئة جديدة نتجت عن زواجها، “كانت أم علي، وهي قريبة لمحسن، تحضّني كل يوم على القيام بالواجبات الاجتماعية، خصوصاً التهاني والتعازي، وكنت أفعل ذلك بطيب خاطر، لأنّي أدركت أنّني في بيت سياسي، والسياسة تقوم هنا على هذه العادات”.

أمّا اليوم، تقول، “تبدّلت الأمور، أحافظ على الصداقات القديمة من خلال الهاتف، وألتقي أحياناً بأُناس أحبّهم أقصدهم أو يقصدونني”.

وماذا عن انتمائها الديني، هل ضاع مع التغيّرات، تُجيب: “أبداً لا زلت أقصد الكنيسة الانجيليّة في بيروت كلّما أمكنني ذلك وألتقي القس حبيب بدر وزوجته، لم يؤثّر الزواج في إيماني، أنا أحترم الجميع في معتقداته وعاداته، وقد ربّيت أبنائي على ذلك، ولم أطلب منهم يوماً اتّباع فكر مُحدَّد، بل عملت على إنماء الفكر لديهم، ولهم الحياة يختارون ما يشاؤون. انا اعيّد كل الاعياد المسلمة والمسيحية . في لبنان تعرفت الى جديد لم اعرفه هي ذكرى عاشوراء، واحترمت التقاليد ولم اكن لأقيم الولائم في ايام عاشوراء، لكني لم افهم البكاء المستمر، لان الوفاء لذكرى الحسين يكون بالتقلد بسيرته واخلاقه، لا البكاء عليه”.

ماذا تقرأ وماذا تكتب؟ اولا اتابع الصحف اليومية كل صباح، واشتري بعض المجلات المصرية والاجنبية، وأقرأ حاليا كتاباً بالانكليزيّة عن الحرب اللبنانية، ولا أزال أُتابع أبحاثي عن شخصيّات لبنانيّة أسهمت إسهاماً بارزاً في النهضة الثقافيّة والإبداعيّة التي شهدتها مصر ابتداء من أواخر القرن التاسع عشر ومن منتصف القرن العشرين. وقدّمت كتاباً ضخماً موثّقاً عن الأديب ابراهيم المصري، كما اصدرت لها “دار الجديد” كتابا عن الصيدلي نقولا الحداد بعنوان “نقولا حداد، الأديب العالم”.

أثّرت الهجرة في حياة سلمى مرشاق كثيراً وتركّز اهتمامها على الأسباب التي دفعت بأجدادها للهجرة حيث كانت مصر الدولة الارحب. واعتبرت أنّ محبّة مصر هي فوق كل موضوع.
هل أنت مصريّة أم لبنانيّة؟ تضحك وتقول: “لا أنسى جذور والدي ووالدتي، وكنت أحبّ بلدة جون كثيراً. ودير المخلّص في جوارها. إلّا أن مصر طبعت شخصيّتي، وأثّرت في انتمائي إليها. أحبّ مصر، وأزورها كلّ سنة، ولا يزال أخي وأقاربي هناك. وأيضاً المراكز الثقافيّة والمكتبات والمتاحف التي أنتمي إليها”.
ولا يمكن الحديث مع السيدة النبيلة من دون التطرّق إلى جريمة اغتيال لقمان سليم نجلها. وأسألها: “هل كنت تمثّلين أمام الناس حينما امتنعتي عن البكاء، وأوحيتي لهم أنّك أكبر من المصيبة؟”.
تقول: “لست أكبر من المصيبة. لقمان لم يكن فقط ابني. هو صديقي وشريكي ونديمي. ينهكني غيابه، ويصيبني في صحّتي وفي قلبي، لكن الحزن شيء خاص. لقمان لا يُفارقني، أتحدّث معه كل ليلة، وأبكي. أنا حزينة. حزينة عليه، وعلى نفسي، وعلى العائلة، وعلى مجتمع يزداد انغلاقاً، وعلى وطن يخسر أبناءه المفكّرين”.
تهرب من الموضوع، فتُشير إلى لوحة على الجدار، وإلى تطريز ورثته عن والدتها، وتدلّني إلى المكتبة الصغيرة، لتقول انها تملك مكتبة ضخمة في سوق الغرب، لم يعد المكان في حارة حريك يتّسع لها، وهي أضافت إلى كتبها مكتبة مهمّة من الأديب المصري وديع فلسطين، الذي خاف أن تندثر المكتبة بوفاته، فباعها (أو أهداها)، إلى صديقته سلمى مرشاق وهي تعكف على توثيق مقتنياتها الثمينة.

 

*نقلاً عن النهار

مواضيع ذات صلة

الياس خوري رحل إلى بيروته وتركنا لأشباحها

عن 76 عاماً، قضاها بين الورق والحبر والكتب والنضال من أجل تحرير فلسطين والإنسان العربي، غادرنا الروائي والقاصّ والناقد والأكاديمي الياس خوري، تاركاً فراغاً يصعب…

طلال سلمان في ذكراه… “أين الطريق”؟

قبل عام كامل غادرنا طلال سلمان، بعد سبع سنوات من توقف جريدته “السفير” عن الصدور. غادرنا قبل اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة وجنوب لبنان، وتمرّ…

وليد فيّاض وعجائبه السّبعة: تحويل “الكرامة” إلى “فيولة”‎

اختصر وزير الطاقة وليد فياض في كلمتين فلسفة المنظومة السياسية التي يمثّلها: “الكرامة” و”أميركا”. ونحن اللبنانيّين عالقون بلا كهرباء، بين هاتين الكلمتين. نحن المحكومون من…

يحيى السنوار: إيمان عميق وبراغماتيّة أيضاً؟

غاب عن المشهد 23 سنة، فلمّا عاد إليه عام 2011، ارتقى بسرعة سلّم القيادة، فأضحى في عام 2017 بعد ستّ سنوات من تحرّره رئيس الحركة…