آلان بيفاني، عاشق الشهرة والظهور الإعلامي، الذي حوّل نفسه إلى باحث اقتصادي، يتنقّل بين مراكز الأبحاث الدولية والمحطات التلفزيونية، للتسويق لأفكاره الاقتصادية، ولتعبيد طريق العودة إلى السلطة. آخر إبداعاته توصّلت إلى أنّ الرئيس الشهيد رفيق الحريري أصل بلاء لبنان، ومعه رئيس مجلس النواب نبيه برّي، وذلك عبر دراسته الأخيرة التي حملت عنوان “أصل الأزمة في القطاع المصرفي اللبناني”، ونُشِرت في نهاية أيلول الماضي، في مؤسسة “Hoover institute” الفكرية للسياسة العامّة، ومقرّها الولايات المتحدة الأميركية. وتُعدّ هذه الدراسة دراسةً سياسيةً ذات وجه اقتصادي.
فقد تضمّنت الدراسة عصارة أفكار بيفاني السياسية، مع قليل من الأرقام المنتقاة بعناية، والمقتطَعة من سياقها بشكل دقيق لتوكيد نظريّاته. والأهمّ إخلاصه المنقطع النظير للفكرة التي أوصلته إلى منصبه السابق، ألا وهي العداء لرفيق الحريري. لذلك لا جدوى من مناقشة دراسة بيفاني من الناحية الاقتصادية، بل الأصل مناقشتها من الناحية السياسية.
لا يحيد بيفاني في دراسته عن سرديّته التي اعتدنا عليها في تحميل رفيق الحريري المسؤوليّة عن كلّ شيء. لا يمكن أن يُوصَف عداؤه للحريري بكلمات مهما كانت بليغةً ومعبّرةً. تظهر كراهية الحريري في كلام بيفاني أينما حلّ وارتحل، وفي دراساته مهما كان عنوانها. فمشكلة لبنان، بزعمه، هي رفيق الحريري ولا شيء آخر
كراهية الطائف وصانعه
1- لا يحيد بيفاني في دراسته عن سرديّته التي اعتدنا عليها في تحميل رفيق الحريري المسؤوليّة عن كلّ شيء. لا يمكن أن يُوصَف عداؤه للحريري بكلمات مهما كانت بليغةً ومعبّرةً. تظهر كراهية الحريري في كلام بيفاني أينما حلّ وارتحل، وفي دراساته مهما كان عنوانها. فمشكلة لبنان، بزعمه، هي رفيق الحريري ولا شيء آخر.
2- يتناغم بيفاني مع غُلاة التطرّف المسيحي في تحميل اتفاق الطائف وحده كلّ أزمات لبنان. فقط لأنّ الاتّفاق قلّص من صلاحيّات رئيس الجمهورية “السُلْطانية”. إذ يقطع بيفاني تماماً بين لبنان ما قبل الطائف وبعده، وينطلق في توصيف أزمات لبنان فقط من لحظة وصول رفيق الحريري إلى رئاسة الحكومة عام 1992، مع إغفال ذكر السنوات الثلاث الأولى بعد الطائف وكأنّها غير موجودة.
هذا مع العلم أنّ أزمة الاقتصاد اللبناني بدأت فعليّاً في أواسط الثمانينيّات. فالدولار منذ عام 1985 إلى عام 1992، أيّام حكم أمين الجميّل، ومن بعده ميشال عون، كان يخرق رقماً قياسياً جديداً كلّ شهر أو بضعة أشهر، وفي تلك السنوات أيضاً انطلقت عمليّة دولرة الاقتصاد وعمليّات المضاربة المنسوبة زوراً وبهتاناً إلى رفيق الحريري، مع تسجيل نسب تضخّم هائلة تفوق ما نعيشه حالياً، حتى إنّ أعلى نسبة تضخّم في تاريخ لبنان كانت عام 1987، وبلغت 731%.
يذكر الدكتور غسان العيّاش في كتابه “أزمة الماليّة العامّة في لبنان”، أنّ الدولار ارتفع 482 مرّة من عام 1982 إلى 1992، مسجّلاً نسبة ارتفاع بلغت 85% سنويّاً، وخسارة الليرة 99.8% من قيمتها.
الانتقام من برّي
3- التطوّر الوحيد في دراسة بيفاني هذه عن سابقاتها، هو إدخال اسم الرئيس نبيه برّي شريكاً لرفيق الحريري في إفساد الدولة ومؤسساتها.
لم يكن بيفاني يجرؤ سابقاً على ذكر اسم بري، لكنّه بعد خروجه من لبنان بخفّيْ حُنين، صار يريد الانتقام من الرئيس بري، بمفعول رجعيّ، عن قيام علي حسن خليل، منذ تسلّمه حقيبة المال في حكومة الرئيس تمام سلام عام 2013، بإعادة بيفاني إلى حجمه الطبيعي كمدير عامّ، بعدما لعب أدواراً أيام الحكومات السابقة تفوق بكثير صلاحيّات منصبه، وتحوّل في عهد الوزير محمد الصفدي، ما بين عاميْ 2011 و2013، إلى الوزير الظلّ والقابض على أختام وزارة المال.
هل كان عدنان عضّوم حريريّاً؟
4- يحاول بيفاني خداعنا وكأنّ ذاكرتنا مثقوبة، واتّهام الحريري بشلّ السلطة القضائية أيام عدنان عضّوم الذي شبّهه الراحل الكبير غسان تويني بـ”الفرعون”.
عضّوم الذي تمّ تعيينه نائباً عامّاً تمييزيّاً عام 1995، واستمرّ حتّى عام 2005، كان قد نصّب نفسه حاكماً في قصر العدل وخارجه، وبات لاعباً أساسيّاً في النظام يهاجم ويحاكم معارضيه، وفي طليعتهم رفيق الحريري. من استدعاء الوزراء المقرّبين منه تكراراً إلى قصر العدل، ومحاولة سجن وزير المال فؤاد السنيورة، وسجن مهيب عيتاني وعبد المنعم يوسف ظلماً وعدواناً، وصولاً إلى محاولة سجن رفيق الحريري نفسه عبر اتّهامه بالرشوة الانتخابية في قضية تنك الزيت الشهيرة قُبيل اغتياله.
كِذْبة الاقتصاد الريعيّ
5- يتحدّث بيفاني عن سياسة تثبيت الليرة “من قبل الحريري وتابعه رياض سلامة” (حسب وصفه)، وتأثير ذلك في خنق القطاعات الإنتاجية، وتحفيز استيراد السلع والخدمات بشكل مفرط.
يلقى هذا الكلام رواجاً هائلاً اليوم مع تعمّق الأزمة الاقتصادية، بشكل يجعل الناس تصدّق أنّ نظام الاقتصاد الريعيّ هو من اختراع رفيق الحريري.
بيد أنّ كلّ ذلك ما هو إلّا وهم وسراب خادع، فنموذج الاقتصاد الريعي القائم على استقطاب التدفّقات النقدية من الخارج، هو السائد منذ قيام دولة لبنان الكبير. لكنّ لبنان استفاد من ظروف سياسية معيّنة جعلته قِبلة الأموال العربيّة، مع تدفّق الرساميل الفلسطينية بعد النكبة عام 1948، وهروب الثروات من التأميم في أكثر من بلد عربي في الخمسينيّات، وعوائد النفط التي ارتفعت في الستينيّات والسبعينيّات.
يوضِح الدكتور توفيق كاسبار في كتابه “اقتصاد لبنان السياسي”، بالأرقام، أنّ حصّة الزراعة في أحسن أحوالها لم تتجاوز نسبة 14% من الناتج المحلّي اللبناني، وأنّ حكومات عهود ما قبل الطائف أهملت عمداً القطاع الصناعي لمصلحة الاقتصاد الريعي.
كيف أصبح بيفاني مديراً عامّاً؟
6- من الطريف جدّاً أن يتحدّث بيفاني عن علاقة رياض سلامة الوثيقة بالقيادة السورية للبقاء في منصبه وتحصين دوره، فهل يستطيع أن يُخبرنا كيف أصبح مديراً عامّاً لوزارة المال في عزّ النفوذ السوري؟ هل حدث ذلك عبر امتحانات مجلس الخدمة المدنية؟ أو عبر استطلاع رأي المجلس كما تنصّ القوانين في حال كان المرشّح لشغل وظيفة من الفئة الأولى من خارج الملاك؟
بالتأكيد لا.
العامل نفسه الذي يتحدّث عنه، وكونه من الخرّيجين المتفوّقين في مدرسة كراهية وعداء رفيق الحريري، هما ما رجّحا اختياره من دون غيره.
ثمّ كيف استطاع الاستمرار في منصبه طوال السنوات الماضية، خاصةً أيام حكومة السنيورة، الذي يعتبره بيفاني خصماً مباشراً أيضاً؟ لا بدّ من وجود حماية سياسية كفلت له البقاء في منصبه، أو أنّ الحريريّة السياسية لا تقوم بإقالة المديرين انتقاماً مثلما تفعل باقي القوى السياسية.
7- حول خطة التعافي الاقتصادي، يتحدّث بيفاني عن جذب نحو 27 مليار دولار من الدولارات الجديدة على مدى خمس سنوات، من دون أن يُخبرنا عن كيفيّة جذبها، وهو الذي يتساءل في ختام دراسته عن مصدر ثقة السياسيين والمصرفيين الذين يجادلون اليوم ويتحدّثون عن جذب مليارات الدولارات بعد عودة الاستقرار النقدي.
التطوّر الوحيد في دراسة بيفاني هذه عن سابقاتها، هو إدخال اسم الرئيس نبيه برّي شريكاً لرفيق الحريري في إفساد الدولة ومؤسساتها
تغييب بنك المدينة وسلسلة الرواتب
8- لم يتطرّق بيفاني مطلقاً إلى فضيحة إفلاس بنك المدينة، مع أنّ دراسته تحمل عنوان “أزمة المصارف”، فلم يذكره مرّةً واحدةً في دراساته السابقة، لأنّ أبرز رعاته كانوا في عداد لوائح المتنعّمين بودائعه، ولأنّ الحريري لم يكن من بينهم.
9- يُعرِض بيفاني تماماً عن ذكر سلسلة الرتب والرواتب ودورها في تسريع الانهيار، كي لا يبرز فشله في تقدير أرقامها، وللتعتيم على سخائه في إقرار زيادات هائلة على مداخيل الرؤساء والوزراء والنواب والسفراء والمديرين العامّين، وهو كان من المستفيدين منها، وقد أدّت إلى ترنّح الخزينة سريعاً.
تُرى ماذا سيكون رأي بيفاني لو كانت تلك السلسلة من إعداد الرئيس السنيورة أو أيّ شخص ينتمي إلى الحريريّة السياسية؟
التعتيم على الكهرباء والتهريب
10- يمرّ بيفاني في دراسته عَرَضاً على الوصاية السورية، وحزب الله وتأثيره، وحرب تموز عام 2006، وكأنّها غمامة صيف عابرة. ويذكر لِماماً الحرب في سوريا، وتأثيرها على الاقتصاد الوطني، متعمّداً عدم ذكر أنّ أوّل عجز سُجِّل في الميزان التجاري كان عام 2011.
ولم يذكر أبداً قطاع الكهرباء، هذا الثقب الأسود الذي ابتلع لوحده نصف الدين العامّ. إضافة إلى تجنّبه الحديث عن حملات التهريب المهولة التي يقف خلفها حزب الله، والتي جعلت أرقام الاستيراد تحلّق عالياً جدّاً، خاصّةً في السنتين الأخيرتين، وطبعاً من حساب ودائع اللبنانيين التي يتباكى عليها.
إقرأ أيضاً: خليفة آلان بيفاني
بالمحصّلة، كان مردّ هذا النشاط البحثي والأكاديمي المكثّف لبيفاني هي رغبته في العودة إلى لبنان، ومحاولته التأثير في بعض مراكز القرار الدولي لدعم تسلّمه منصباً رفيعاً. فهو لم يترك لبنان لأنّ لجنة المال النيابية أسقطت خطّته فقط، بل لأنّه أدرك أنّ حاكميّة مصرف لبنان، التي كان يصبو إليها، ليس هو مرشّح عون وصهره لتسلّمها، إنّما الوزير منصور بطيش، ضيف صفحات جريدة “الأخبار” شبه اليوميّ في مقالات “البطش” برياض سلامة. حتى إنّ عون لم يطرح اسمه ولو مرّة واحدة في اللوائح الاسمية التي حفلت بعشرات الأسماء المسيحيّة طوال مخاض تشكيل الحكومة، من مصطفى أديب إلى نجيب ميقاتي.
لذلك، ولأنّ الطريق إلى المناصب، ولا سيّما مسيحيّاً، معبّدة بكراهية رفيق الحريري، يُغالي بيفاني في تحريف الوقائع وتزييف التاريخ من أجل تحميل الحريري مسؤوليّة كلّ أزمات لبنان، علَّ الكراهية تمنحه عودة أسطوريّة إلى السلطة، وهو الأمر الذي سبق أن أشار إليه رفيق الحريري بنفسه من على صفحات كتاب الأستاذ غسان شربل “لعنة القصر”، عندما تحدّث عن معارضة الكثير من السياسيين له طمعاً في رصيد شعبي، وأنّه لدى سؤاله أحدهم، وكان وزيراً، عن السبب، قال له إنّ “معارضتك بتحرز”، فيما قال له سياسيّ آخر: “لا يمكن للمرء بناء زعامة إلا إذا عارضك”.