يمكن القول إنّ العراق دخل في مرحلة ما بعد الانتخابات البرلمانيّة المبكرة ونتائجها، التي صدمت قوى سياسية كانت تعتقد أنّها الأقدر على الإمساك بالشارع الشعبي، لكنّها تراجعت لمصلحة قوى تملك قاعدة شعبيّة واسعة قادرة على تحريكها بالاتّجاه الذي تريده ساعة تشاء وكيفما تشاء أن يكون عليه الموقف. إنّ هذه النتائج انتقلت إلى المرحلة النهائية بانتظار تقديم الطعون والنظر فيها خلال الأيام الثلاثة عشر المقبلة، أي حتى نهاية هذا الشهر، مع ترجيح عدم إجراء تعديلات جوهرية تؤثّر على النتيجة المعلَنة.
يعود استبعاد إمكانية تعديل النتائج شبه النهائية، بانتظار تصديقها من المحكمة الاتحادية العليا، إلى المخاطر التي تنطوي عليها مثل هذه الخطوة، إذ يمكن أن تضع البلاد في دائرة الانفجار والحروب المتنقّلة والفلتان الأمني، وذلك أنّ الفريق “التيار الصدري” الذي أعلن نفسه فائزاً بالكتلة الكبرى، واستطاع تحقيق الهدف الذي عمل من أجله بحصد أعلى نسبة من المقاعد النيابية ليكون قادراً على الإمساك بالسلطة التنفيذية ومستقبل العراق في المرحلة المقبلة، بزعامة سيّده مقتدى الصدر، سيكون أمام تحدّي الدفاع عن المنجز الذي حقّقه وطالما انتظره، وعن هذه اللحظة المفصليّة التي خطّط من أجل الوصول إليها، والتي تفرضه متحكّماً بالعملية السياسية وتحديد مصير الحكومة بشيء من الثقة على حساب القوى السياسية الأخرى التي طالما جعلته شريكاً لها على أساس مبدأ الاستيعاب، ولم يكن معها قادراً على فرض رؤيته، فاضطرّ إلى استخدام رصيده وشارعه الشعبي لتحقيق أو الحصول على ما يريده داخل مؤسسة الحكم والدولة.
يعود استبعاد إمكانية تعديل النتائج شبه النهائية، بانتظار تصديقها من المحكمة الاتحادية العليا، إلى المخاطر التي تنطوي عليها مثل هذه الخطوة
وفي مقابل تسليم القوى السياسية داخل المكون السُنّيّ بالنتائج التي انتهى إليها الاقتراع، والتي لا توحي بإمكانيّة حصول معركة سياسية بينها، فضلاً عن عدم إمكانيّة حصول تحالف بينها، لأنّ كلّ طرف من الحزبين الأساسيّين المستأثرين بغالبية المقاعد التي حصل عليها المكوّن السنّيّ، أي حزبا “تقدّم” بزعامة محمد الحلبوسي و”عزم” بزعامة خميس الخنجر، قد سبق له أن حسم خياراته وتحالفاته واتجاهاته السياسية، التي توفّر له الغطاء الذي يعتقد أنّه قادر على منحه شراكة فاعلة في القرار العراقي وفي العمليّة السياسية. لذلك جاء اصطفاف هذين الحزبين واضحاً منذ ما قبل يوم الاقتراع، بين تقارب واضح وتحالف أوّليّ بين الحلبوسي ومحور الصدر والقوى التي تدور في فلك الرؤية السياسية التي يمثّلها، ونسبيّاً مع قوى تشرين وبعض المستقلّين، من دون أن يقفل الباب أمام الحوار وإمكانيّة التفاهم مع الفريق المنافس في المكوِّن الشيعي إذا ما وجد أنّ مصلحته السياسية تقتضي هذه الالتفافة. في حين أنّ خيار الخنجر كان غير ملتبس بالوقوف إلى جانب وفي صفّ رئيس الوزراء الأسبق وزعيم كتلة “دولة القانون” نوري المالكي، الذي أعاد ترميم قواعده الشعبية والانتخابية بشكل واضح، واستطاع فرض نفسه القوّة الثانية داخل المكوّن الشيعي بعد التيار الصدري، وأن يكون الجهة التي لا يمكن لخصمه حتّى العداوة، الصدر، تجاوزها في حال ذهبت الجهود ناحية إعادة إحياء البيت الشيعي، وعقد تسوية أو صفقة تمنع الانزلاق نحو مواجهات في الشارع قد لا يكون أيٌّ منهما قادراً على تقدير مآلاتها السياسية والدموية.
في هذه الأجواء، استطاع الحزب الديموقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني إعادة تثبيت وتكريس زعامته للمكوّن الكرديّ من دون إلغاء للمكوّنات الأخرى، ومن بينها التحالف الوطني الكردستاني بزعامة آل طالباني الذي استطاع ترميم موقعه داخل المجتمع الكردي. هذا في حين صعد التيّار الثالث “الجيل الجديد” بزعامة سشوار عبدالواحد فارضاً شراكته مع الثنائي التاريخي على حساب حزب التغيير والأحزاب الإسلامية الكردية.
من هنا تبدو الأحزاب الكردية الطرف الأكثر راحةً في التعامل مع المشهد الانتخابي ونتائجه ومعركة تشكيل الحكومة. فهو الطرف الذي لا يعيش حالة بحث عن حليف من داخل المكوّن الشيعي لضمان شراكته وحصّته في الحكومة المقبلة على غرار المكوّن السنّيّ، بل سيكون الطرف الذي يملك مفاتيح ترجيح طرف شيعي على آخر في ظلّ ما ستشهده المعركة الحكومية، وهو لن يسارع إلى حسم خياراته التحالفيّة قبل أن يعرف الاتجاه الذي ستهبّ فيه رياح التسويات الداخلية والخارجية الإقليمية والدولية، وسيجلس بانتظار أن تتّضح صورة هذه التسويات.
يراقب رئيس حكومة تصريف الأعمال مصطفى الكاظمي ورئيس الجمهورية المنتهية ولايته برهم صالح المشهد والاتّجاهات التي يمكن أن تذهب إليها التحالفات بين القوى والكتل. وتكشف الزيارة الثنائية، التي قاما بها عشيّة إعلان نتائج الانتخابات للسيّد حسين الصدر في مدينة الكاظمية على أطراف بغداد، عن محاولاتهما البدء بسلسلة من التحرّكات تساعد في إبقائهما في موقع متقدّم على خارطة المرشّحين لتولّي هذين الموقعين، خصوصاً أنّ في مواجهة أحزاب الإسلام السياسي والطبقة المتديّنة والليبرالية يُعتبَر الصدر (السيّد حسين) المرجعيّة الروحية والأخلاقية والرعائية لهما، ولا سيّما الكاظمي الذي يرتبط معه بعلاقات خاصّة وعميقة تتجاوز المسائل السياسية. والصدر أيضاً هو البوّابة لمغازلة مقتدى الصدر ولمحاولة قطع الطريق على إمكانيّة التأثير عليه لتعديل ما يُحكى عنه من تفاهمات ما قبل الانتخابات التي يتبنّى بموجبها عودتهما إلى مواقعهما في إطار تحالف سياسي لا يبتعد كثيراً عن توجّهات حسين الصدر. ولذا هدفت هذه الزيارة إلى توجيه رسالة لكلّ القوى الأخرى بأنّهما يمتلكان، على الرغم من اتّهامهما بالليبرالية والانتماء إلى الخطّ الغربي – العربي، مرجعيّة دينية تقف إلى جانبهما وتؤيّد توجّهاتهما وعودتهما إلى السلطة.
إقرأ أيضاً: الصدر ينتصر على الحرس الثوري في العراق: لا شرقية ولا غربية
لا شكّ أنّ المشهد العراقي بعد إعلان النتائج الانتخابية بات واضحاً في انقسامه على نصاب الجهة التي يحقّ لها تسمية رئيس الوزراء المقبل والهيمنة على الدولة واتّجاهاتها. ومع تمسّك كلا الاتّجاهين بهذا الحقّ أو الاستحقاق، لم يستطع أيٌّ منهما إخفاء مخاوفه من إمكانية الانزلاق إلى المواجهة في الشارع، لذلك ارتفعت وتيرة الرسائل المتبادلة بين المالكي ومقتدى الصدر ودعوات الحوار والتفاهم والتحالف والتوصّل إلى نقاط مشتركة التي تُخرج العراق والاستحقاقات الدستورية من نفق التعطيل، والعراق من خطر الدخول في الفوضى على المستوى الداخلي، وتثبِّت المواقف الاستراتيجية، وتُخرج العراق من دائرة التجاذبات الدولية والإقليمية لمصلحة القرار المستقلّ والسيادة على القرار، خصوصاً من قبل الصدر الذي يبدو أنّ تكريس زعامته للعمليّة السياسية يحتاج إلى موقف واضح من القوى الإقليمية والدولية لتسهيل مهمّته الداخلية.