يواصل موقع “أساس” نشر سلسلة مقاطع من كتاب “أطول أيام الزعيم”، للسياسي الفلسطيني، الوزير السابق والمستشار الرئاسي في السلطة الفلسطينية، نبيل عمرو، الذي عايش الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
اليوم ننشر الحلقة الخامسة بعنوان “نبيل عمرو في كتابه “أطول أيام الزعيم” (5): أبو عمار في الضاحية الجنوبية.
صار لا بُدّ من مغادرة المكان. فالهاربون إلى الشرق قد يبلِّغون الخصوم عن المكان الذي يوجد فيه الرجل المستهدف، والذي قالت الرسالة القادمة من أمريكا إن هنالك من لا يريده أن يخرج حيًّا من بيروت.
عُدنا للتجوّل بالسيارة دون مقصد محدد، يهيمن علينا هاجس أن كل المكاتب والمقرّات وحتى البيوت واقعة تحت مرمى عدسات الكاميرات المنتشرة برًا وبحرًا وجوًا. ما زلنا في منتصف شارع الحمرا. كان فتحي قد أنجز توزيعًا متقنًا للعشرات من زملائه، واتفق معهم على طرق خاصة للاتصال به. شاهدنا اثنان منهما. عادل زيادة وكمال مدحت، يشيران إلينا بالتوقّف. وبالفعل توقفت السيارة بمحاذاتهما، أنزل القائد العام زجاج النافذة وسأل:
- عرفتو الانفجار فين؟
أجابا:
– نعم ولقد تم استهداف العمليات المركزية في الصنايع، إلا أن البناية المجاورة لها نالت النصيب الأكبر من الخسائر، فلم يخرج من سكانها أحد حيًا.
رفع زجاج النافذة وأمر فتحي بالعودة إلى الوراء حيث المكان الذي دُمّر. قال فتحي:
– يا ختيار مفيش داعي تروح هناك، فالإسرائيليون يقصفون أول مرة، ويصطادون طريدتهم في المرة الثانية فما الذي يضمن أن لا يقصفوا ثانية وأنت هناك؟ ستكون مجزرة.
أعجبتني مداخلة فتحي. كانت دقيقة ومجربّة. فحين قصفت الطائرات الإسرائيلية معاقل الثورة في محيط المدينة الرياضية قبل أشهر وتجمع الناس حول الركام لانتشال الجثث ونقل الجرحى إلى المشافي، قصف ذات المكان بعد عشر دقائق، وكان ضحايا القصف الثاني أفدح من الأول.
– تحرّك يا فتحي إلى المكان فورًا.
لبرهة من الزمن شعرت باستحالة النجاة من الموت، وأنا مع هذا الرجل في سيارة كالضريح
لم يملك المرافق إلا الإذعان لأمر رئيسه. استدار وعاد بنا إلى الموقع المُدمّر. كانت خمس دقائق تفصلنا عن المكان كافية لأن أحاول ثني الرجل عن المجازفة، وآخر ما توصلت إليه معه، أن لا يطيل البقاء في المكان بما لا يزيد عن الوقت اللازم لإلقاء كلمة تشجيع مختصرة. بدا لي أنه قبل باقتراحي. وصلنا إلى المكان، ترجَّل من السيارة وتبعناه. اندمج بحشد المواطنين ورجال الإسعاف والدفاع المدني الذين كانوا يقومون برفع الأنقاض وانتشال الجثث.
المشهد الدامي وما رأيناه وشى بأن لا جرحى في هذه الموقعة بل قتلى. بعد كلمة تشجيعية موجزة صعد إلى السيارة وانطلقنا دون أن نعرف إلى أين. من صفات القائد العام أنه يبكي وقتما يشاء، وحين وضع رأسه بين كفيه وأجهش بالبكاء بدا لي أن الرجل يبكي من شدة التأثّر ليس مما رأى بل مما فعل. ولهذا حكاية تبرر ليس البكاء فقط بل واللطم على الوجه.
في سياق الحرب التي سبقت الاجتياح النهائي احتلت ميلشيا محلية معادية مخيمًا فلسطينيًا صغيرًا ومعزولًا وكان بمثابة جزيرة تحيط بها النار من كل الجهات. شفع لسكان المخيم القلائل في البداية أنهم مسيحيون، إلا أن حمى الحرب التي وصلت حدّ نفاذ بنك الأهداف، أدت إلى أن تطلب الميليشيا المحلية المسيطرة على محيط المكان من سكان المخيم الصغير “الضبية” الالتحاق بالمخيمات الكبيرة الخارجة عن نطاق سيطرتها. وحين وصلوا إلى بيروت الغربية امتص الأقارب والمعارف عددًا منهم. أمّا الذين بقوا بغير مأوى فقد أمر بإسكانهم في البناية القريبة من غرفة العمليات المركزية، وأمر بالبحث عن مأوى لهم في مكان أكثر أمانًا.
قلت:
- رحمهم الله. كُلٌّ يواجه قدره في الحياة والموت.
وضعت يدي على كتفه، وأضفت مواسيًا ومشجِّعًا:
– كان يمكن أن نكون مثلهم لولا الصدفة. وكم نجونا من موت محقّق، وكم من صديق وعزيز ودّعنا في هذه المسيرة الدامية. توقّف عن البكاء فأمامك الكثير لتعالج. فنحن في الأيام الأخيرة ومعركتنا السياسية أكثر تعقيدًا من العسكرية.
أدار وجهه ناحيتي وقال بعد أن جفّت الدموع:
- ليرحمهم الله. ليرحمهم الله.
كانت الساعة قد جاوزت الواحدة بقليل، وبينما كان فتحي يقود السيارة على مهل وينتقل من شارع ضيّق إلى شارع آخر تفاديًا لعدسات الكاميرات، خطرت ببالي فكرة كان أحد زملائي العاملين في الإذاعة قالها في معرض استعراضه لخبراته العسكرية، مفادها أن أكثر الأماكن أمنًا من القصف الجوي هي خطوط التماس حيث لا يفصل المتقاتلين عن بعضهم البعض سوى أمتار قليلة. ورغم عدم تأكدي من صدقية هذه الفكرة إلا أنها بدت لي معقولة، ونحن نواجه احتمال القصف أو القنص بواسطة الطائرة، وما حدث قبل أقل من ساعة أي تفجير المقر، عزز هذا الاحتمال.
كنت لبرهة من الزمن قد شعرت باستحالة النجاة من الموت، وأنا مع هذا الرجل في سيارة كالضريح، وشعرت رغم معايشتي لجميع الحروب التي فرضت علينا وخاصة في المدن، بأنني وصلت إلى ما لم أصل إليه من قبل؛ اليأس. عبرت في خاطري صور زوجتي بشرى وأبنائي طارق ونرمين ومروان ونادين لم يكن محمود آخر العنقود قد ولد بعد.
حين أودعتهم وباقي العائلة سيارة أجرة كي يسافروا إلى مدينة الزرقاء الأردنية حيث يقيم أهل زوجتي. ألحّ عليّ هاجس أنني لن أراهم ثانية. كان أسعد خبر تلقيته وأنا في قلب ذلك الجحيم، أنّ جميع أفراد أسرتي ومعهم أفراد أسرة زميلي طاهر العدوان قد وصلوا بأمان إلى الأردن، فكسبنا مساحة من الحرية لإدارة شؤون الإذاعة الميدانية دون خوف على أسرنا المعرّضة للخطر.
كنت وأنا في المقعد الخلفي لسيارتي، أقلّب خيارات ألوذ بها من أجل النجاة الشخصية، هل استأذن من الرجل المطارد وانفصل عنه بذريعة أن عملي يحتاجني؟ لم أجد في نفسي الجرأة على مواصلة التفكير في خيارات النجاة الشخصية، فالرجل الأهم مني آلاف المرات والذي يحبس العالم أنفاسه حول مصيره لا يفكر في التخفي أو الهرب، فأيّ مسوّغ إنساني أو أخلاقي يسمح لي بذلك. طردت الفكرة من ذهني وقررت مواصلة البقاء مع الرجل حتى النهاية.
من الخصائص القيادية للزعيم أنه ومن أجل أن يقود بجدارة ومصداقية، فلا بد وأن يتقدّم الصفوف. كان يقوم بأعمال يمكن أن يقوم بها ضباط صغار يحتلون مراتب دنيا في جيشه. وحين كنّا نراه في وضع كهذا كنّا نفسر لأنفسنا لماذا نمضي معه حتى لو جرى مسرعًا نحو خطر محقق.
ما زالت السيارة تسير ببطء على الشوارع الخلفية والضيقة، والتي يخفيها جدار طويل ومرتفع من البنايات البيروتية الشاهقة.
– ما رأيك بزيارة تفقدية لقواتنا المتمركزة على خطوط التماس، إنها ضرورية وخصوصًا في هذه الظروف. فمقاتلونا يعيشون تحت وطأة الظنّ بأن قصف غرفة العمليات أدى إلى إصابتك أو استشهادك في المكان، كذلك فإنهم يتابعون الأخبار التي تتحدث عن الرحيل وهذا يمكن أن يضعف جاهزيتهم للقتال حال استئنافه في أي لحظة. إن ظهورك أمامهم سيكون له أبلغ الأثر في شحن معنوياتهم.
أعجبته الفكرة وأمر فتحي بالتوجّه إلى خطوط التماس. كان شرط فتحي أن لا يترجّل الزعيم، وأن يكتفي بتحية المقاتلين دون مغادرة السيارة فلا نعرف أين يكمن القناصون. إلا أنني لم أكن متأكدًا من أنه سيلتزم بطلب فتحي. فعندما يرى المواقع المحصّنة والأسلحة الجاهزة للعمل، والرجال الذين يعتمرون الخوذات الفولاذية وراء بنادقهم ورشّاشاتهم، من الذي سيمنعه من مغادرة السيارة لمعانقتهم والتحدّث إليهم.
من الخصائص القيادية للزعيم أنه ومن أجل أن يقود بجدارة ومصداقية، فلا بد وأن يتقدّم الصفوف
ما إن وصلنا إلى أول موقع على خطوط التماس، وعرف الواقفون عليه بأن الجالس في السيارة الزرقاء غير المصفحة هو قائدهم، حتى تركوا مواقعهم وتحلّقوا حوله وتناوبوا على تقبيله، وهم يقولون الحمد لله على السلامة. ظنناك استشهدت. وقال أحد الظرفاء: “أبو عمار بسبعين روح”. فهم قائد الموقع إشارة فتحي بأن يأمر رجاله بالعودة إلى مواقعهم.
ودّع القائد العام المقاتلين وانتقلنا إلى موقع آخر.
كان فتحي هو دليلنا في التعريف على انتماءات المقاتلين الذين يتمركزون وراء التحصينات على تلك الخطوط التي تحيط ببيروت الغربية إحاطة السوار بالمعصم. كانوا يستوقفونه فيضطر للنزول من السيارة ليعانقهم فردًا فردًا وحين يقولون له الحمد لله على السلامة كان يجيب بجملته الأثيرة: “تعرفون أنني الشهيد الحي”.
أكملنا الطواف على مواقع قواتنا وقوات حلفائنا على خطوط التماس مع بيروت الشرقية. كان فتحي يشرح لنا:
هذا الحاجز للمرابطين تُعرّف عنه صورة جمال عبد الناصر وإبراهيم قليلات، وذاك للقوميين السوريين ثم للشعبية والديموقراطية والتقدمي الاشتراكي الخ.
قال فتحي:
-ما رأيكم باستكمال الجولة بتفقّد الضاحية الجنوبية؟
هوى قلبي خوفًا من الفكرة. فهناك يكمن الخطر الأشدّ. الضاحية الجنوبية تعني معقل الشيعة ومنظمتهم العسكرية (أمل)، وتعني كذلك التماس المشتعل مع المطار والطريق الرئيس المؤدي إلى الجنوب والذي احتله الإسرائيليون بحيث صاروا على بعد أمتار من حدود الضاحية، وهنالك مخيم فلسطيني كبير هو برج البراجنة. وما كنت أعرف عن الضاحية كذلك أنها منطقة التصاهر بين الفلسطينيين واللبنانيين دون إقامة أدنى اعتبار لكون الفلسطيني سنيّا واللبناني شيعيًا أو من أي طائفة أخرى!
إذًا ورغم أنني حاولت ثني الزعيم عن الذهاب إلى هناك إلا أنه أصر وأمر فتحي بالتوجّه إلى تلك المنطقة الخطرة.
خبرة فتحي بالطرقات الرئيسية والفرعية ساعدتنا في الوصول إلى أول كمين متقدم يقع على تخوم الضاحية خلال أقل من ربع ساعة. كانت قواتنا تتمركز في محيط السفارة الكويتية، وكانت طلائع الجيش الإسرائيلي قد تمركزت على بعد أمتار قليلة هي عرض الشارع الذي يفصل بين القوات المتحاربة. تذكرت ونحن نرى السفارة الكويتية من شارع فرعي آمن من القصف والقنص أنّ قائد الموقع الفلسطيني واسمه أبو سفيان، كان قد زارنا في الإذاعة، وطلب إعداد أشرطة باللغة العبرية يبثها عبر مكبر للصوت كي يلقي الرعب في نفوس الجنود الإسرائيليين الذين يقفون قبالته. أعدّ القسم العبري في إذاعتنا نداءات بلغة عبرية متقنة تقول للجنود الإسرائيليين “بأن مصيرهم الموت”.
تجاوزنا السفارة الكويتية، ولما وصلنا أول الضاحية طلب الزعيم من فتحي أن يتوقف. هبط من السيارة وهبطت وراءه، فإذا بنا أمام بيت صغير، وفي فنائه الأمامي كانت تجلس امرأة في الأربعينيات من عمرها تخبز على الصاج. كان الجوع قد أنهكني. كنت أشعر بدوار وغثيان. لم يكن في جوفي سوى بعض فنجان القهوة الذي لم أكمله بفعل ما حدث أمام الفرن وعصير البرتقال الذي شربناه في منزل رئيس الاستخبارات. أعذب رائحة شممتها في ذلك اليوم كانت الرائحة العبقرية المنبعثة من الخبز والحطب المشتعل، حتى خُيّل إلىّ أن صاحبنا ترجّل بصورة مفاجئة استجابة لنداء الرائحة.
تعرفت السيدة عليه، تخلصت من العجين العالق على يديها انقضّت عليه احتضنته وغمرته بالقبل، اقتادته إلى داخل الغرفة الكوخ، جلنا بناظرينا لتفحص الصور المعلقة على الجدار، فمنها نعرف الهوية السياسية لأصحاب المكان. رأينا صور جميع الأماكن المقدسة؛ قبة الصخرة والمسجد الأقصى والكعبة والمسجد النبوي. أقسمت المضيفة أن يكون بينها وبين الزعيم “عيش وملح”. لاحظت بعض تحفّظ على وجهه، فتوليت دور القيادة لدقيقة وقلت:
– يسعدنا أن تكون أوّل وجبة طعام لنا هذا اليوم في بيتك العامر.
كانت وجبة مهولة، هكذا تصورتها وأنا على جوع. كانت قد أضافت إلى خبز الصاج الطازج والساخن اللبن الرائب، مع حبّات من الزيتون المغموسة بالزيت. أكلت بنهم بينما أكل الزعيم كعادته بتحفّظ، وقبل أن نُودع السيدة المضيفة طلبت رغيفًا لفتحي.
أكملنا الطواف ليس على الكمائن في هذا الجزء من الرحلة بل في شوارع الضاحية والمخيم. أمضينا زهاء ساعة، لم يكن ممكنا تفادي إقبال المواطنين على تحية الزعيم وسؤاله عما ينتظرنا. غدًا هو نفس السؤال ولكن بصيغ متفاوتة، متى تتم المغادرة؟ وإلى أين؟ إلا أن سؤالًا إضافيًا جعل قلبي يهوي خوفًا وقلقًا وما الذي سيحل بنا بعد خروجكم.
أجاب الزعيم:
– إنّ أحد أسباب تأخر مغادرتنا هو سعينا الدؤوب من أجل تأمين حماية دولية لكم، ولن نغادر قبل وصول القوات الدولية. وها هي قيد التشكُّل. ونسأل الله أن ينجحوا في إقامة منطقة عازلة لحماية مخيماتنا وأحياء حلفائنا. ثم إن كل من يحمل وثيقة لبنانية من الفلسطينيين سيبقى هنا أي أن أبناءكم لن يغادروا.
إقرأ أيضاً: نبيل عمرو في كتابه “أطول أيام الزعيم” (4): “الختيار يحاور فيليب حبيب”
لم يقل بالطبع إنه أخفى كمية كبيرة من السلاح ربما تنفع.
بعد ان أكملنا الطواف على متاريس وكمائن خط التّماس في الضاحية الجنوبية والمخيم غادرنا المنطقة مستخدمين طرقًا غير تلك التي أتينا منها.