الديموقراطيّة والانتخابات: لا تعايش مع سلاح الحزب

مدة القراءة 7 د

في كلمة تأبينيّة يوم الأحد الفائت، أطلق النائب محمد رعد التهديد والوعيد ضدّ الذين يسعون إلى الحصول على الأكثرية في الانتخابات النيابية المقبلة. واتّهمهم بـ”شراء الذمم ودفع أموال باهظة من أجل أن يعدّلوا موازين القوى ويسيطروا على الأكثرية المقبلة في المجلس النيابي…”. وأضاف أنّ هؤلاء يتوهّمون “أنّهم يستطيعون أن يغيّروا المسار السياسي في هذا البلد…”. إنّ ما قاله رئيس كتلة حزب الله النيابية يستحقّ التوقّف عنده. فالرجل هو من أبرز القياديين في الحزب. وبالتالي يعبِّر كلامه بشكل واضح عن تعامل حزب الله مع الانتخابات، وعن طريقة تعامله مع المرحلة المقبلة.

أوّلاً: إنّ الانتخابات في فلسفتها وجوهرها محطة أساسيّة في الحياة السياسية الديموقراطية تفسح المجال لانتقال السلطة من طرف إلى آخر. وهذا يحدث عبر الحصول على الأكثرية في البرلمان. إذاً الحصول على الأكثرية النيابية هو هدف تخوض الأطراف السياسية من أجله الانتخابات.

المسار السياسي الذي اختاره حزب الله للبنان يتعارض كلّيّاً مع واقعه الجيوسياسي. فإيران تبعد آلاف الأميال. ولا علاقات معها. بضع بواخر محمّلة بالمازوت والبنزين ومهرّبة، بسبب العقوبات الأميركية ضدّ إيران، لن تُغيِّر هذا الواقع الجيوسياسي

المشكلة أنّ حزب الله غريب عن هذا المنطق الديموقراطي والانتخابي. فهو، منذ خروج الجيش السوري من لبنان ومحاولة إعادة الحياة الديموقراطية إلى البلد عبر الانتخابات، لم يذعن فعليّاً لنتائجها. في عام 2005، فرض، تحت التهديد، حليفه نبيه بري مرشّحاً أوحد لرئاسة المجلس النيابي. فكان رئيس المجلس من خارج الأكثرية! وهي مسألة يصعب فهمها بالمنطوق الديموقراطي. وهو لم يتوانَ عن النزول إلى الشارع بسلاحه في 7 أيار واحتلال العاصمة لتعطيل قرارات مجلس الوزراء المنبثق عن الأكثرية النيابية. وفي عام 2007، منعها من انتخاب رئيس جديد للجمهورية بتعطيله جلسات الانتخاب لأشهر إلى أن كان اتفاق الدوحة الذي أتى بميشال سليمان رئيساً للجمهورية. بين عاميْ 2014 و2016، كرّر حزب الله مع حليفه ميشال عون شلّ فعّاليّة الأكثرية النيابية ليفرض هذا الأخير مرشّحاً أوحد للرئاسة. وبين التعطيلَيْن، نشر عناصره بقمصانهم السود في شوارع بيروت وأحيائها ليفرض نجيب ميقاتي رئيساً للحكومة. فكانت حكومة الأقليّة في المجلس النيابي! وهذا أيضاً غير مفهوم في المنطوق الديموقراطي.

ثانياً: في كلامه عن رغبة البعض في تغيير المسار السياسي، قال رئيس كتلة حزب الله النيابية إنّ هؤلاء يريدون أخذ البلد “إلى حيث أخذوا بعض دول الخليج لمصالحة العدوّ الإسرائيلي وتطبيع العلاقات معه”. إنّ التطبيع مع إسرائيل مسألة غير مطروحة بتاتاً من قبل أيّ طرف لبناني. والكلام عنه من قبيل الاتّهام والتخوين أصبح كلاماً مستهلَكاً ولم يعُد ينطلي على أحد.

أمّا في ما خصّ تغيير المسار السياسي في البلد فهو لبّ القضية. إنّ خصوم حزب الله يعلنون كل يوم أنّهم يريدون تغيير المسار السياسي إذا ما ربحوا الانتخابات المقبلة، لا بل إعادة هذا المسار إلى ما كان عليه قبل سطوة حزب الله على السلطة في لبنان، وعزله عن العالم العربي، واختطافه ورميه في المحور الإيراني. لا يمكن للبنان أن يعيش معزولاً عن عالمه الجيوسياسي الطبيعي. على الرغم من خصوصيّة لبنان بتعدّديّته الدينية والحضارية، فإنّه جزء من جغرافيا العالم العربي، ويتشارك مع دوله وشعوبه التاريخ واللغة والحضارة والمصالح المشتركة. من هنا أتى في “الفقرة ب” من مقدّمة الدستور أنّ “لبنان عربيّ الانتماء والهويّة، وهو عضو مؤسّس وعامل في الجامعة العربية وملتزم مواثيقها..”. الدول العربية هي الشريك الاقتصادي الأوّل للبنان استيراداً وتصديراً. وكان القطاع السياحي اللبناني يعوّل بشكل أساسيّ على السيّاح العرب، وتحديداً الخليجيّين. وأسواق العمل الخليجية هي مقصد اليد العاملة اللبنانية منذ ستّينيّات القرن الماضي حتّى اليوم…

في المقابل، المسار السياسي الذي اختاره حزب الله للبنان يتعارض كلّيّاً مع واقعه الجيوسياسي. فإيران تبعد آلاف الأميال. ولا علاقات معها لا اقتصادية ولا تجارية ولا سياحية ولا ثقافية… بضع بواخر محمّلة بالمازوت والبنزين ومهرّبة، بسبب العقوبات الأميركية ضدّ إيران، لن تُغيِّر هذا الواقع الجيوسياسي. أضف إلى ذلك أنّ هذا المسار هو مسار تدميريّ للبلد بدأ منذ تسعينيّات القرن الماضي. فاستثناء حزب الله من قرار حلّ الميليشيات بحسب اتفاق الطائف، ومدّه بالسلاح، ومصادرته قرار الحرب والسلم، أبقت البلد في حالة من عدم الاستقرار، معيقةً مشروع إعادة بناء الاقتصاد اللبناني ما بعد الحرب. وهو اليوم يقف حاجزاً بوجه حصول لبنان على المساعدات العربية والدولية للخروج من حال الانهيار. لذلك تغيير المسار السياسي في البلد لاستعادة البلد وإعادته الى بيئته العربية الطبيعية هو ضرورة ملحّة.

ليس المهمّ أن يُطالب حزب الله بإجراء الانتخابات النيابية في موعدها، وأن يشارك فيها. المهمّ أن يتقيّد بقوانينها من حيث حريّة الترشّح وتكافؤ الفرص وقبول النتائج


1- تطرّق النائب رعد في كلامه إلى “شراء الذمم ودفع الأموال الباهظة”. هو كلام مردود على الحزب بشكل أساسيّ. صحيح أنّ كلّ انتخابات في لبنان، على اختلافها، منذ الاستقلال حتى اليوم، كانت تحضر فيها الرشوة الانتخابية بقوّة، وقد كانت الانتخابات النيابية الأخيرة فاضحة في هذا المجال، ولكنّ حزب الله ليس بريئاً، فمؤسّساته الاجتماعية على اختلافها تهدف، فيما تهدف، إلى “شراء الذمم” والأصوات في المحطات الانتخابية. وستكون “شركة الأمانة”، التي توزِّع الوقود الإيراني في لبنان، “نجم الاستحقاق” المقبل.

وفي موضوع المال الانتخابي، فإنّ آخر طرف سياسيّ يحقّ له انتقاد تمويل خارجي للحملات الانتخابية هو حزب الله (هذا لا يعني أبداً أنّنا نقبل أو ندعو إلى تمويل خارجي للحملات الانتخابية). وكان أمينه العام، في أكثر من مناسبة، قد أعلن أنّ حزب الله “مصرياتو ومعاشاتو وصواريخو ولبسو وأكلو وشربو من الجمهورية الإسلامية في إيران”. وهو يموّل حملاته الانتخابية من هذه الأموال. إذ لا فرق بين الحزب السياسي والميليشيا العسكرية. واليوم يُضاف إلى هذه الأموال المازوت والبنزين الإيرانيّان. هذا العامل الجديد في الرشوة، إضافة إلى علبة المساعدات الغذائية والبطاقة التمويلية، سيزيد من حجم المال الانتخابي، وسيستجلب أنواعاً أخرى من الرشى. وسيزيد من تدخّل دول إقليمية وغربية في الاستحقاق. وحينئذٍ ستفقد الانتخابات نزاهتها وشفافيّتها، خاصّة أنّ أكثر من 75% من اللبنانيين أصبحوا فقراء.

2- كلام الحاج محمد رعد عن ضغوطات على مرشّحين نضعه في خانة التهديد الاستباقي لمرشّحين يستعدّون لخوض الانتخابات. فالحزب هو مَن لديه الأجهزة العسكرية والأمنية للتهديد والاعتداء إذا لزم الأمر. وتاريخه حافل. فهو لم يقبل يوماً مرشّحين شيعة مستقلّين في دوائره الانتخابية في الجنوب والبقاع. وقد وثّق الإعلام اللبناني والمؤسسات الدولية الاعتداءات التي تعرّض لها بعض هؤلاء المرشّحين في انتخابات 2018، وهي اعتداءات شاركت فيها حركة أمل.

إقرأ أيضاً: الحزب “يكتُمُ” أصوات المغتربين… مراعاة لـ”الميثاقيّة”

ليس المهمّ أن يُطالب حزب الله بإجراء الانتخابات النيابية في موعدها، وأن يشارك فيها. المهمّ أن يتقيّد بقوانينها من حيث حريّة الترشّح وتكافؤ الفرص وقبول النتائج. والأهمّ أن يتصرّف فيما بعد على أساس وجود أكثريّة وأقليّة. وهذا ما لم ولن يفعله. فالديموقراطية لا يمكن أن تستقيم مع السلاح، فكيف إذا كان سلاحاً غير شرعيّ وتابعاً لطرف خارجي؟!

* أستاذ في الجامعة اللبنانيّة

مواضيع ذات صلة

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

المطربة والفنانة اللبنانية الشهيرة ماجدة الرومي، كانت نجمة الأيام القليلة الفارطة، ليس بسبب إبداعها وجمال صوتها “الكريستالي”، ولا بروائع أعمالها الغنائية، وهي تستحق هذا كله،…

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…