العراق: المقاطعة تعطّل الانتخابات؟

مدة القراءة 7 د

حتى أواخر شهر تموز الماضي لم تكن القيادات السياسية العراقية قد استطاعت حسم موقفها من إجراء الانتخابات المبكرة المقرّرة في العاشر من الشهر العاشر من هذا العام. وكانت المواقف موزّعة بين إمكان إجرائها وعدمه، الأمر الذي دفع الكثير من القوى والأحزاب السياسية، وفي مقدّمهم التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر، وحركة “موج” بزعامة رئيس الوزراء الأسبق أياد علّاوي، وبعض تشكيلات “التشرينيّين” (الثورة)، إلى إعلان الانسحاب من العملية الانتخابية. في حين تمسّكت القوى الأخرى بإجراء الانتخابات في موعدها المقرّر، مثل تحالف الفتح الممثِّل لفصائل الحشد الشعبي، وتيّار الحكمة بزعامة عمّار الحكيم المتحالف مع كتلة النصر بقيادة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، فضلاً عن تحالف دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، وتحالف المحور الوطني بقيادة خميس الخنجر المتحالف مع تحالف القرار بقيادة رئيس البرلمان الأسبق أسامة النجيفي، وتحالف العزم الذي يتزعّمه رئيس البرلمان الحالي محمد الحبلوسي، إضافة إلى القوى الكردية بجميع أطيافها، خصوصاً الثنائي الأساسي الحزب الديموقراطي (البارزاني) والاتحاد الوطني (الطالباني).

التيار الصدري، وفي الجانب الخدمي، أُصيب بجروح بالغة جراء الأحداث التي كشفت انهيار القطاع الصحي والمنظومة الاستشفائية

وتختلف أسباب العزوف والانسحاب من الانتخابات لدى كل فريق ذهب إلى هذا الخيار، وتختلف أيضاً الأسباب التي دعت القوى الأخرى إلى التمسّك بإجرائها. وإذا ما كانت الأسباب، التي دفعت علاوي إلى الانسحاب، ناتجةً عن قراءة واقعية للتغيّرات الحاصلة في العملية السياسية، وانتقال الأوزان السياسية من ضفة إلى أخرى، ونضوج التجربة السياسية لدى الأطراف التي شكّلت الثقل الانتخابي والسياسي الذي مثّله علاوي، نتيجة إدراكها أنّها لم تعد بحاجة إلى “قيّم” يتحدّث باسمها، فإنّ الأسباب التي دفعت التشرينيّين إلى الانسحاب قد تعود إلى حجم الإحباط الذي أُصيبت به هذه القوى نتيجة وقوعها فريسةً لاستغلال الآخرين، وعدم قدرتها على بلورة مشروع جامع وواضح يمكِّنها من منافسة القوى التقليدية التي باتت تمثّل الدولة العميقة.

في هذا السياق، يأتي إعلان مقتدى الصدر الانسحاب من العملية الانتخابية لأسباب متداخلة ومركّبة. إذ إنّ التيار الصدري، وفي الجانب الخدمي، أُصيب بجروح بالغة جراء الأحداث التي كشفت انهيار القطاع الصحي والمنظومة الاستشفائية، وتحميله مسؤولية هذا الانهيار لكون وزارة الصحة جزءاً من حصّته في توزيعة المواقع الوزارية في حكومة مصطفى الكاظمي، خصوصاً بعد الحريقين اللذين وقعا في مستشفى ابن الخطيب في بغداد، ومستشفى الحسين التعليمي في الناصرية، والفاجعة الإنسانية التي أدّت إلى مقتل مئات المرضى، فضلاً عن تراجع قطاع الكهرباء، وفشل الوزارة التي تعتبر أيضاً من حصّة التيار الصدري في معالجة الانقطاعات التي ضربت العراق.

أمّا في الجانب السياسي، فيبدو أنّ الزعيم الصدري، وبعدما أكّد أكثر من مرّة، مباشرة أو عبر مقرّبين منه أو قيادات في تيّاره، أنّ الحصّة الكبرى من المقاعد في البرلمان المقبل ستكون من نصيب التيار الصدري، وأنّ العدد الذي سيحصل عليه لن يكون أقلّ من 80 مقعداً، الأمر الذي يؤهّله لتسمية رئيس الوزراء المقبل، سواء كان من داخل التيار أو من خارجه، قد اكتشف صعوبة تحقيق هذا الهدف نتيجة عدّة عوامل. منها حالة اليأس الشعبية من إمكان إحداث تغيير في الطبقة السياسية، وعزوف شرائح كبيرة من العراقيين عن المشاركة، بالإضافة إلى تراخي قبضة الصدر والتيار على القاعدة الشعبية التي تعتبر قوّة متماسكة ومسيَّرة، والأكبر والأوسع شعبياً مقارنة بالقواعد الشعبية للقوى الأخرى.

يبدو أنّ هذه الحقائق أوصلت الصدر إلى قناعة بضرورة إحداث صدمة داخل القاعدة الشعبية للتيار، وحفظ طريق الخروج من المأزق في حال لم تحدث الانتخابات، أو في حال حدثت ولم يحصل على التمثيل الذي يطمح إليه ويجعله الرقم الأصعب في المعادلة السياسية بعد الانتخابات، ويكرّسه زعيماً سياسياً ودينياً في المرحلة المقبلة.

تختلف أسباب العزوف والانسحاب من الانتخابات لدى كل فريق ذهب إلى هذا الخيار، وتختلف أيضاً الأسباب التي دعت القوى الأخرى إلى التمسّك بإجرائها

على الرغم من كلّ هذه المعطيات، يبدو أنّ القوى العراقية لم تصل إلى حسم موقفها من إجراء الانتخابات. فقد راهن كلٌّ منها بناءً على المعطيات التي يملكها.

الحراك الإيراني الذي شهده العراق قبل أسبوع من زيارة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي لواشنطن، والمواقف التي صدرت عن الوفود الإيرانية ودعمها لإجراء الانتخابات، إلى جانب تأكيد الرئيس الأميركي جو بايدن، أمام الكاظمي في 26 تموز، ضرورة إجراء الانتخابات البرلمانية المقبلة، كلّ هذا كشف عن وجود تفاهم غير معلن بين الطرفين الأميركي والإيراني على تمرير وإجراء هذه الانتخابات التي يُتوقَّع أن تنتج سلطة جديدة في العراق يكون من أولى مهمّاتها تنفيذ الاتفاق الاستراتيجي بين بغداد وواشنطن حول انسحاب القوات القتالية الأميركية من هذا البلد، والتأسيس لمرحلة جديدة من التفاهمات بينهما يكون العراق أبرز مصاديقها وتجلّياتها.

هذه التطوّرات، وما لمسته القوى السياسية العراقية بمختلف انتماءاتها من جدّيّة لدى الطرفين المعنيّين بالوضع العراقي في ما يتعلّق بالانتخابات، خصوصاً ما سمعته القيادات العراقية التي حجّت إلى طهران للمشاركة في حفل أداء الرئيس الجديد إبراهيم رئيسي اليمين الدستورية، وما يعرفه وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين الذي رافق الرئيس برهم صالح في اجتماعاته مع المسؤولين الإيرانيين، والرسالة الأميركية التي حملها إلى نظيره الإيراني محمد جواد ظريف وشاركه في تسلّمها المرشّح لخلافته حسين أمير عبداللهيان، كلّ هذا رفع من وتيرة الحراك العراقي لإيجاد مخرج لأزمة الانسحابات من الانتخابات البرلمانية التي أعلنتها بعض القوى، خصوصاً التيار الصدري. وما الاجتماعات المتلاحقة التي تجري بين القوى السياسية، بمشاركة الرئاسات العراقية الثلاث (الجمهورية والحكومة والبرلمان)، سوى محاولات لإقناع هذه القوى بالتخلّي عن موقفها.

ويبدو أنّ زعيم التيار الصدري سيكون في موقف معقّد، لأنّ العودة عن القرار فيها الكثير من المخاطر على صدقيّته السياسية والدينية، خصوصاً أنّه أقسم بمعتقداته ودم والده وأخويه على عدم التراجع، وأعلن تبرّؤه من أيّ جهة تشارك في الانتخابات من المنتمين إلى التيار الصدر أو تقدّم نفسها ممثّلة له. فضلاً عن أنّ إعلان دعمه أو تأييده لأيّ تحالف لا يمثّل مباشرة التيار الذي يقوده قد لا يدفع القاعدة الشعبية إلى الالتزام بانتخابه أو حتى بالمشاركة لمصلحته. في حين أنّه لو ترك لمرشّحي التيار خيار المشاركة في إطار مسمّى مختلف، فقد يؤثّر ذلك سلباً على حجم الكتلة البرلمانية التي يسعى إلى الحصول عليها، ويصعِّب حصوله على 80 مقعداً، وقد يؤدّي إلى أن تتراجع كتلته، التي تبلغ في البرلمان الحالي نحو 53 نائباً، إلى ما دون أربعين. هذا في وقت تذهب التقديرات إلى أنّ القوى الأخرى ستستطيع الحفاظ على أحجامها، بالإضافة إلى إمكان أن يرفع خصوم أساسيون للصدر، مثل زعيم دولة القانون، عدد المقاعد التي لديهم في البرلمان الحالي.

إقرأ أيضاً: الانسحاب الأميركيّ: تحييد العراق؟

لا ينعكس هذا المشهد المعقّد على حجم الكتل السياسية داخل المكوّن الشيعي فقط، بل قد ينعكس بشكل أساس على مستقبل رئيس الوزراء الحالي وإمكان التجديد له لولاية كاملة من أربع سنوات، خصوصاً أنّه يعتمد في رهاناته للعودة على تفاهمات مع التيار الصدري، وتحالفات مع بعض القوى التشرينية، وعلى ائتلاف بين تيار الحكمة (عمار الحكيم) وكتلة النصر (حيدر العبادي) داخل البيت الشيعي. ولن تكون معركة المكوّنات الأخرى، السنّيّة والكردية، أقلّ تعقيداً من معركة المكوّن الشيعي. وهذا ما سيعقّد أيضاً الرهانات على دور واضح لها في مستقبل رئاسة الوزراء.

[VIDEO]

مواضيع ذات صلة

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…

الليلة الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”..

تحملُ ليلة هروب رئيس النّظام السّوريّ المخلوع بشّار حافظ الأسد قصصاً وروايات مُتعدّدة عن تفاصيل السّاعات الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”، قبل أن يتركَ العاصمة السّوريّة دمشق…