روبرت ف. وورث (Robert F. Worth)
في أول مقابلة له مع صحافي، بعد اختفاء دام عشر سنوات، يصف سيف الإسلام القذافي سنواته المأساوية في الأسر، ويلمّح إلى احتمال الترشّح للانتخابات ليصبح الرئيس القادم للبلد.
قبل عشر سنوات، وبالقرب من مدينة “أوباري” الليبية الصحراوية، اعترضت مجموعة من المتمرّدين المسلّحين موكباً صغيراً أثناء محاولة الفرار جنوباً باتجاه النيجر. استوقف المسلّحون السيارات، فوجدوا رجلاً تغطّي الضماداتُ يدَه اليمنى. رأوا وجهاً كان دائم الظهور على شاشات التلفزيون الليبي. إنّه سيف الإسلام القذافي، الابن الثاني لديكتاتور ليبيا السيّئ السّمعة، وأحد الأهداف الرئيسية للمتمرّدين.
قبل اندلاع الانتفاضة الليبية في شباط عام 2011، كان الغرب يعقد الآمال على سيف الإسلام لإحداث إصلاح تدريجي في البلاد. درس سيف الإسلام في “كلية لندن للاقتصاد”، وتحدّث لغة الديموقراطية وحقوق الإنسان. وكوّن صداقات مع علماء سياسة مرموقين، حتى إنّ بعض أصدقائه في الغرب اعتبروه المُنقِذ المنتَظَر لليبيا.
لكن عندما قامت الثورة، سارع سيف الإسلام إلى الانضمام إلى حملة القمع الغاشمة التي أطلقها نظام القذافي. وقع أسيراً لدى كتيبة ذات توجّه مستقلّ حمته من الفصائل المتمرّدة الأخرى، ونقلته جوّاً إلى مدينة “الزنتان”. وظلّ أسيراً لدى الزنتانيّين حتى بعد انتخابات ليبيا عام 2012.
لم يكن هناك مَن هو أفضل من سيف الإسلام للتوسّط من أجل الوصول إلى تسوية بين نظام أبيه والمتمرّدين عام 2011، إذ كانت تربطه صلات وثيقة بشخصيات بارزة في حركة المعارضة
وفي السنوات التالية، انقسمت ليبيا إلى ميليشيات متناحرة. وشيئاً فشيئاً، بدأ الليبيون يغيّرون نظرتهم إلى سيف الإسلام الذي سبق أن تنبّأ بانقسام ليبيا في الأيام الأولى من الثورة عام 2011. وأفادت التقارير بأنّ خاطفيه أطلقوا سراحه، وأنّه ينوي الترشّح للرئاسة، غير أنّ مكانه لم يكن معروفاً لأحد.
في صباح يوم عاصف حارٍّ في أيار الماضي، غادرتُ فندقي في طرابلس وجلستُ في المقعد الخلفي لسيارة “سيدان” رمادية متهالكة. كان سائق السيارة يُدعى سالم، وكنتُ قد تحدّثتُ معه من قبل دون أن ألتقيه قطّ. انتابني كثيرٌ من التوتّر، فقد قضيتُ عامين ونصف عام أرتّب لهذه المقابلة مع سيف الإسلام. وخلال هذه الفترة تحدّثتُ معه عدّة مرّات عبر الهاتف. كنّا في شهر رمضان. لم نمرّ على أيٍّ من نقاط التفتيش التي توقّعتُ المرور بها. وبعد ساعتين تقريباً، صعدنا ببطء وسط قمم بنّيّة داكنة حتى وصلنا إلى هضبة “الزنتان”..
لم يمضِ وقتٌ طويل حتى توقّفت خلفنا سيارةٌ بيضاء من طراز تويوتا لاند كروزر، وخرج منها رجل طَلب منّا أن نترك هواتفنا في سيارة سالم. عرّف السائق نفسه بأنّه محمد، ثمّ قاد السيارة إلى أن دخل مجمّعاً سكنيّاً محاطاً بالبوابات، وأوقف السيارة أمام فيلّا من طابقين تبدو عليها مظاهر الترف.
تقدّم نحوي رجلٌ، ومدّ يده قائلاً: “مرحبا!”.
لم يكن لديّ شكٌّ في أنّه سيف الإسلام، مع أنّ ملامحه بدت أكبر سنّاً، وكست وجهه لحيةٌ طويلةٌ غزاها الشيب. كان إبهامُ يده اليمنى وسبّابتها مبتورتين نتيجة إصابته بشظيّة في إحدى الغارات الجوية عام 2011، على حدّ قوله. قادنا إلى قاعةٍ غلبت عليها مظاهر الترف.
مرّت فترةٌ من الصمت المشوب بالارتباك قبل أن أسأله إن كان لا يزال سجيناً، فقال إنّه رجلٌ حرٌّ، وإنّه يرتّب لعودته إلى الساحة السياسية. أوضح أنّ المقاتلين، الذين اعتقلوه قبل عشر سنوات، قد تحرّروا من وهْم الثورة، وأدركوا في نهاية المطاف أنّه قد يكون حليفاً قويّاً لهم.
اعتبر سيف الإسلام أنّ إدارة الرئيس باراك أوباما، وليس معمر القذافي، هي التي تتحمّل مسؤولية الدمار الذي حلّ بليبيا. ولا يزال الخلاف قائماً حول قرار أوباما الأوّليّ بالتدخّل في ليبيا
استغلّ سيف الإسلام غيابه عن الساحة في مراقبة الأوضاع السياسية في منطقة الشرق الأوسط، والعمل بهدوء على إعادة تنظيم القوة السياسية التابعة لأبيه والمعروفة باسم “الحركة الخضراء”. والحقيقة أنّ الشعار الذي اختاره لحملته نجح في العديد من الدول، بما فيها دولتنا، وهو “السياسيّون لم يقدّموا لكم شيئاً سوى المعاناة. حان وقت العودة إلى الماضي”. قال سيف الإسلام: “لقد اغتصبوا بلادنا وأذلّوها. ليس لدينا مالٌ ولا أمنٌ ولا حياة. إذا ذهبتَ إلى محطة وقود، فلن تجد وقوداً. نحن نضيء نصف إيطاليا، ونعاني نحن من انقطاع الكهرباء. ما يحدث تخطّى حدود الفشل. إنّه مهزلة”.
على الرغم من اختفاء سيف الإسلام عن الساحة، فإنّ تطلّعاته إلى الرئاسة تؤخذ على محمل الجدّ. وتشير بيانات استطلاعات الرأي المحدودة في ليبيا إلى أنّ قطاعاً عريضاً من الليبيين، بنسبة 57 في المئة في منطقة واحدة، قد عبّروا عن “ثقتهم” بسيف الإسلام.
يستمدّ سيف الإسلام ميزة سياسية من اسمه، وميزة أخرى من الواقع الغريب، حيث إنّ عدداً كبيراً من الليبيين يعتبرون الآن أنّ ابن معمر القذافي، نفس الابن الذي توعّدهم في خطابه عام 2011 بسيل “أنهار من الدماء”، هو أطهر مرشّحي الرئاسة يداً.
يَعتبر كثيرٌ من الليبيين أنّ عودة سيف الإسلام هي السبيل إلى إغلاق الباب على عقد ضاع هدراً، مع أنّهم لا يعرفون على وجه التحديد شكل المستقبل الذي قد يحمله لهم.
في ليبيا، أطاح المتشدّدون المحيطون بأبيه بأفكاره الديموقراطية، ودأب منتقدوه على تسميته “سيف الأحلام”.
على الرغم من ذلك، لم يكن هناك مَن هو أفضل من سيف الإسلام للتوسّط من أجل الوصول إلى تسوية بين نظام أبيه والمتمرّدين عام 2011، إذ كانت تربطه صلات وثيقة بشخصيات بارزة في حركة المعارضة.
أخبرني سيف عن شعوره بالخوف على ليبيا في الأيام الأولى بعد عودته، فقال: “حذّرتُ الجميع، وطلبت منهم أن أسرعوا الخطى في مشاريع الإسكان وفي الإصلاحات الاقتصادية، لأنّكم لا تعرفون ما الذي سيحدث في المستقبل”.
استغلّ سيف الإسلام غيابه عن الساحة في مراقبة الأوضاع السياسية في منطقة الشرق الأوسط، والعمل بهدوء على إعادة تنظيم القوة السياسية التابعة لأبيه والمعروفة باسم “الحركة الخضراء”
وفي 20 شباط 2011، أعلنت وسائل الإعلام الحكومية الليبية أنّ سيف الإسلام سيلقي خطاباً تلفزيونيّاً. رأى بعض الليبيين أنّ هذا الخطاب سيكون لحظة انتصار للمعارضة. توقّعوا أن يعلن سيف الإسلام تنحّي أبيه إيذاناً ببدء عهد جديد من الإصلاحات الليبرالية.
لكن بدلاً من ذلك، استهلّ كلامه بوصف الانتفاضات التي اجتاحت العالم العربي بأنّها “عاصفة ديموقراطية” كان يتوقّعها. اتّهم سيف الإسلام الليبيين في الخارج باستغلال الأحداث وتأجيج العنف، وحذّر من أنّ ليبيا ليست تونس ومصر، لأنّ طبيعتها القبلية قد تفكّكها بسهولة إلى دويلات وإمارات. تنبّأ بحدوث حرب أهلية، واختراق حدود البلاد، وحدوث هجرة جماعية، وبأنّ ليبيا ستصبح معقلاً للجماعات الإرهابية.
استطرد سيف الإسلام في خطابه: “سيتمّ حرق وتدمير كل شيء في ليبيا، وسنحتاج إلى 40 سنة أخرى حتى نتّفق على إدارة هذه البلاد”.
سرعان ما أصبح هذا الخطاب الكارثي نقطة تحوّل في مسار الانتفاضة، إذ غيّر انطباع الليبيين عن سيف الإسلام، ورأى الكثيرون أنّه كان يتحدّث باسم النظام، وأنّه أطلق تهديداً حقيقيّاً بشنّ الحرب.
اعتبر سيف الإسلام أنّ إدارة الرئيس باراك أوباما، وليس معمر القذافي، هي التي تتحمّل مسؤولية الدمار الذي حلّ بليبيا. ولا يزال الخلاف قائماً حول قرار أوباما الأوّليّ بالتدخّل في ليبيا.
تحدّث حديثاً مبهماً عن النفاق، وقال إنّ وسائل الإعلام العربية شيطنت نظام القذافي إلى درجة جعلت من المستحيل إقامة حوار بين الجانبين.
وصف سيف الإسلام ربيع وصيف 2011 بمسلسل من الأزمات السوريالية. وقال إنّه تلقّى اتصالات هاتفية من زعماء أجانب كانوا يعتبرونه على الأرجح وسيطاً بينهم وبين أبيه. وأخبرني أنّ أحد المتّصلين المعتادين كان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان. وأضاف أنّ إردوغان وصف الانتفاضات بأنّها مؤامرة خارجية تُحاك منذ زمن بعيد. أمّا سيف الإسلام فرأى أنّ حرب 2011 قد انبثقت عن التقاء توتّرات داخلية كانت تعتمل منذ وقت طويل مع سياسات أطراف خارجية انتهازية، من بينهم الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي.
قال سيف الإسلام إنّه لم يكن على اتصال بالعالم الخارجي خلال السنوات الأولى من اعتقاله، وأنّه قضى بعض هذه الفترة في مكان أشبه بالكهف، وأدرك أنّه قد يموت في أيّ لحظة. وذات يوم في مطلع عام 2014، تلقّى زيارةً غيّرت مجرى حياته. اندفع رجلان من كتيبة “الزنتان” إلى غرفته الصغيرة.
شارك هذان الرجلان في حركة التمرّد ضد القذافي. كان لأحدهما ابن أصيب بطلقة في رأسه أثناء تبادل إطلاق نار مع ميليشيا منافسة من مدينة “مصراتة” على ساحل البحر المتوسط. أعرب الرجلان عن شعورهما بالحسرة، ولم يكن هذا الشعور نابعاً من خسارتهما الشخصية فحسب. وأخذا يسبّان الثورة ويقولان إنّها كانت غلطة، وإنّ سيف الإسلام وأباه كانا محقّين.
قال سيف إنّه ظلّ يستمع إليهما وهو يشعر بأنّ شيئاً ما يتغيّر. وهذا بدوره قد يهيّئ له الفرصة ليستعيد كلّ ما فقده.
صَدَق حدسُ سيف الإسلام، إذ كانت ليبيا على مشارف مرحلة انتقالية حاسمة. استمرّت فترة الأمل التي أعقبت الثورة حتى صيف عام 2012، عندما أجرت ليبيا انتخابات اعتُبِرت حرّة ونزيهة إلى حدٍّ ما. لكن في وقت لاحق من العام نفسه، تفاقمت الاغتيالات وحوادث الاختطاف، وانقلب المتمرّدون بعضهم على بعض.
كان “الفساد” أحد الهتافات التي سُمِع دويّها في انتفاضات الربيع العربي عام 2011. فالظلم الاقتصادي الذي تجاوز الحدّ في الأنظمة الديكتاتورية هو ما تسبّب في انهيار هذه الأنظمة.
عندما سألتُه عن اتّهامات الاختلاس، قال إنّه لم يرتكب أيّ مخالفة، وإنّ المصرف اتّخذ التدابير اللازمة لمكافحة غسل الأموال والاحتيال.
خلال لقائنا، عاود سيف الإسلام الحديث مراراً وتكراراً عن غياب مفهوم الدولة في ليبيا منذ عام 2011. فعلى حدّ قوله، لم تكن الحكومات المختلفة التي حكمت البلاد منذ ذلك الحين سوى مجموعة من المسلّحين يرتدون بدلات. النتيجة المنطقية واضحةٌ: يبدو أنّ سيف الإسلام يرى أنّه الوحيد القادر على تمثيل الدولة التي تجمع تحت رايتها جميع الليبيين.
لديّ اعتراف هنا: سيف الإسلام، برأيي، يعي ذلك. فهو يدرك أنّ اختفاءه هو السبيل لإحياء شعبيّته، وهو حريصٌ أشدّ الحرص على الاحتفاظ بهالة من الغموض حوله، حتى إنّني عندما التقيتُه في “الزنتان”، كان متردّداً بشأن السماح لنا بتصويره.
قال: “لقد قضيتُ عشر سنوات بعيداً عن أنظار الليبيين. عليك أن تعود إليهم خطوةً خطوة”.
سألتُه عن “الكتاب الأخضر”، وهو كتيّب شبيه بكتاب ماو تسي تونغ فرضه القذافي على الليبيين منذ طفولتهم، بتوليفته الغريبة من النظريات شبه الاشتراكية وبعض الترّهات (مثل “النساء إناث والرجال ذكور”)، ألم يكن ذلك جنوناً؟
قال سيف: “لم يكن جنوناً. تناول الكتاب أموراً أصبح الجميع يعرفونها اليوم”، مضيفاً أنّ مختلف الأفكار التي اكتسبت رواجاً في الغرب، مثل الاستفتاءات العامة، وخطط تملّك الموظفين للأسهم، ومخاطر الملاكمة والمصارعة، تعود أصولها إلى “الكتاب الأخضر”.
أخبرني أنّه بدأ يفكّر في خوض غمار السياسة “في وقت مبكّر جدّاً”. فقد اختاره والده للوساطة مع الغرب بشأن بعض النزاعات التي تورّطت فيها ليبيا. أخبرني أيضاً أنّ أكثر اللحظات فخراً في مسيرته السياسية قبل عام 2011 كانت وساطته في 2009 لإطلاق سراح ضابط الاستخبارات الليبية عبد الباسط علي المقرحي، وهو المُدان الوحيد في قضية تفجيرات لوكربي. سألتُه عن السبب، فقال إنّه وعد المقرحي بإعادته إلى البلاد. وأضاف أنّه لم يعرف الحقيقة الكاملة عن التفجيرات، وأنّ تلك الحقيقة طُمست بفعل المزاعم المتعارضة والثغرات في جمع الأدلّة.
خلال حديثنا الأخير، سألتُه إن كان قد وجد غرابةً في الاحتماء بمنازل مؤيّدي القذافي بعد فراره من طرابلس عام 2011. فهؤلاء الناس كانوا لا يرونه إلا نادراً، وفجأةً أتاهم لاجئاً. هل غيّرتْ هذه التجربة نظرته؟
بدت عليه الحيرة من سؤالي، وقال: “نحن نشبه السمك، والشعب الليبي يشبه البحر. من دونهم نموت. هنا نحصل على الدعم. هنا نختبئ. هنا نقاتل. نحن نحصل على الدعم من هذا المكان. الشعب الليبي هو البحرُ لنا”.
* روبرت وورث كاتب مساهم في المجلّة، والرئيس السابق لمكتب “نيويورك تايمز” في بيروت. نال جائزة “ليونيل غلبر” عام 2017 عن كتابه “غضب من أجل النظام” الذي يتناول انتفاضات الدول العربية في 2011.
لقراءة النص الأصلي: اضغط هنا