يقول وزير الدفاع التركي خلوصي آكار إنّ “اليونان تراهن من خلال شراء بعض المقاتلات والأسلحة الحديثة على قلب التوازنات العسكرية مع تركيا، وهذا من المستحيلات. خيارها الأفضل هو الحوار السلمي مع جارها التركي”. لكنّ الرئيس التركي رجب طيب إردوغان كان أكثر تشدّداً وصرامةً عندما قال لليونان وحلفائها الجدد: “نتابع تطوّرات الأوضاع في شرق المتوسط عن كثب. تركيا هي صاحبة القرار في هذه المنطقة، ولا يمكن لأيّ مبادرة أن تتكلّل بالنجاح بمعزل عنها”.
تحاول أنقرة التحدّث عن مسار حوار تركي أميركي جديد يسقط الحسابات اليونانية. لكنّ المشهد الميداني يقول إنّ واشنطن حسمت موقفها في مسألة صعوبة تسجيل اختراق حقيقي ينسف التقارب التركي الروسي
ترصد أنقرة عن قرب التحوّل الكبير في خطط اليونان الحربية والعقود والصفقات التي عقدتها مع العديد من الدول الإقليمية والغربية لتحديث وتطوير منظومتها العسكرية. ما يقلق تركيا أيضاً هو التعاون والتنسيق الاستراتيجي البعيد المدى بين أثينا وهذه العواصم التي بات لها وجود عسكري واسع وشراكة على الأرض، فمنحت اليونان بعضها قواعد عسكرية فوق أراضيها، وعلى رأسها أميركا وإسرائيل.
لكنّ مشكلة تركيا الأهمّ ستبقى في تحديد خياراتها وطريقة تعاملها مع خطط المواجهة وحرب المواقع الأميركية الروسية في البحر الأسود والقوقاز والبلقان وشرق المتوسط، وثقتها بقدرتها على حماية مصالحها مع اللاعبيْن الكبيرين عبر تأسيس منظومة علاقات استراتيجية متوازنة ترضي كلا الطرفين. وستنشأ مشكلتها الكبرى مع تحوّل اليونان إلى حصان طروادة إقليمي منفتح على تقديم الخدمات والعون لِمَن له خلافات وأزمات مع تركيا يريد تسويتها عبر الفرصة اليونانية.
تحاول أنقرة التحدّث عن مسار حوار تركي أميركي جديد يسقط الحسابات اليونانية. لكنّ المشهد الميداني يقول إنّ واشنطن حسمت موقفها في مسألة صعوبة تسجيل اختراق حقيقي ينسف التقارب التركي الروسي، وقرّرت تقديم مسألة إرضاء اليونان وقبرص اليونانية في شرق المتوسط وإيجه لمعاقبة تركيا على انفتاحها الواسع مع موسكو، حتى لو كان ذلك يتعارض مع معادلة كلاسيكية قديمة تقوم على بناء توازنات سياسية وعسكرية أميركية تُبقي أنقرة وأثينا على مسافة واحدة تحت مظلّة حلف شمال الأطلسي.
العلاقات التركية الأميركية لم تعُد محميّة ومحصّنة بالتحالفات والاتفاقات القديمة. لم تعترض واشنطن على التقارب المصري اليوناني أو الإسرائيلي اليوناني في شرق المتوسط لأنّها تريد أن توازن التحرّك التركي الاستراتيجي في شمال إفريقيا، وتغلق فجوة مهمّة تسبّب بها التقارب التركي الروسي.
التحرّك الأميركي العسكري في اليونان رسالة إلى روسيا حتماً، لكنّه أيضاً رسالة إلى تركيا التي لا تتراجع عن مواقفها وسياساتها في شرق المتوسط وإيجه وقبرص
تسعى أميركا في إطار استراتيجيّتها إلى السيطرة على بحر إيجه وشرق المتوسط لتحديث اتفاق الدفاع المشترك مع اليونان الموقّع عام 1990، بهدف نشر قواتها في عشرات القواعد العسكرية، مع شرط تحديث الاتفاق كلّ خمس سنوات، وهي دلالة على رغبة أميركية في تعزيز وجودها العسكري هناك. وقبل عام نشرت واشنطن حوالي 150 مروحية و1800 آليّة عسكرية في قاعدتها البحرية التي أنشأتها في منطقة ألكسندروبوليس (دادا اغاش) اليونانية، والتي تبعد عشرات الكيلومترات فقط عن الحدود التركية في تراقيا، وذلك تحت غطاء مناورات “المدافع عن أوروبا 2021″، لكنّها تركت جزءاً كبيراً من هذه الطائرات والآليّات هناك. لا تحشد الولايات المتحدة قوّاتها في ألكسندروبوليس فحسب، بل في جزيرة كريت، من أجل تعزيز نفوذها في شرق المتوسط أيضاً.
فلماذا تنفق أميركا أكثر من مليوني دولار على ترميم وتجهيز أرصفة ميناء ألكسندروبوليس اليوناني؟ ولماذا تقرّر إرسال مئات الجنود إلى المنطقة؟
تقول واشنطن إنّ الميناء اليوناني أصبح موقعاً لوجستياً استراتيجياً لأميركا. وقد حدثت نقطة التحوّل الجديدة المهمّة في خلال زيارة وزير الدفاع الأميركي السابق مايك بومبيو في تشرين الأول المنصرم إلى اليونان، حين وقّع اتفاقات تعاون استراتيجي عسكري جديدة، من بينها توسيع رقعة الانتشار الأميركي في القواعد العسكرية الأطلسية داخل الأراضي اليونانية.
لكنّ الخطّة وُضِعت في أثناء زيارة رئيس الوزراء اليوناني ألكسيس تسيبراس إلى واشنطن في تشرين الأول عام 2017، عندما صدر قرار بتقديم مساعدات أميركية عاجلة إلى اليونان بقيمة 2.5 مليارات دولار، وكان التوتّر التركي الأميركي حينئذٍ في ذروته.
لم تعترض واشنطن على التقارب المصري اليوناني أو الإسرائيلي اليوناني في شرق المتوسط لأنّها تريد أن توازن التحرّك التركي الاستراتيجي في شمال إفريقيا، وتغلق فجوة مهمّة تسبّب بها التقارب التركي الروسي
التحليل الأول والسريع في أنقرة هو أنّ الولايات المتحدة تعمل على تحويل اليونان إلى قاعدة عسكرية تابعة لها، في إطار استراتيجيّتها للسيطرة على بحر إيجه وشرق المتوسط. لكنّ هناك أكثر من سؤال واستفسار تركي عن الغرض من هذه التحرّكات الأميركية. يعتقد البعض في اليونان أنّ واشنطن آتية لحمايتها من الغضب التركي، لكنّ المسألة أبعد من ذلك:
تأتي التحرّكات الأميركية في وقت يتنامى الدوْران الروسي والصيني في السواحل الشمالية والشرقية لأوراسيا. إذاً يوجد مخطّط أميركي يتعلّق بالشقّ التجاري الاقتصادي المرتبط بخط الحرير الصيني الذي يريد الوصول إلى هذه المنطقة. تقول واشنطن إنّها تريد حصّتها في المشروع أو ستعرقل كلّ شيء.
لا تستطيع أميركا السيطرة على المضائق التركية، ولذلك تريد تحصين نفوذها في الدائرة الجغرافية الثانية الأقرب، وهي الأراضي اليونانية في إيجه ودول أوروبا الشرقية المطلّة على البحر الأسود. مركز الثقل بالنسبة إلى الولايات المتحدة هو المحيط الهادئ، ولكنّ البحر الأبيض المتوسط مهمّ لها أيضاً لناحية الجغرافيا السياسية للطاقة.
تتحوّل ألكسندروبوليس إلى مركز جديد ومستقلّ لأسواق جنوب شرق ووسط أوروبا، والحديث يدور حول إنشاء خطّ أنابيب يتدفّق منه الغاز إلى رومانيا وصربيا ومقدونيا وبلغاريا والمجر ومولدوفيا بديلاً للخطّ الروسي. واشنطن تريد أيضاً توفير الغاز الطبيعي لأوكرانيا التي تتطلّع إلى الانضمام إلى الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وهي لذلك تسعى إلى تقوية نفوذها عبر الخط المنطلق من ألكسندروبوليس.
قديماً كان نهر مريج (ايفروس) الفاصل بين تركيا واليونان في تراقيا هو الحاجز الوحيد لعرقلة أيّ سيناريو تقدّم عسكري تركي باتجاه اليونان. اليوم القواعد العسكرية الأميركية والانتشار البرّي الواسع هما ما سيوفّر الحماية لأثينا في مواجهة أيّ حالة غضب تركية. وقد فوّضت أوروبا باسم الأطلسي إلى أميركا هذه المهمّة لأنّها لا تريد الدخول في مغامرة عسكرية مع تركيا، وتفادياً لمواجهة النفوذ والتمدّد الروسيّيْن في البحر الأسود وشرق المتوسط، والردّ على القاعدة العسكرية الاستراتيجية في ميناء اللاذقية.
التحرّك الأميركي العسكري في اليونان رسالة إلى روسيا حتماً، لكنّه أيضاً رسالة إلى تركيا التي لا تتراجع عن مواقفها وسياساتها في شرق المتوسط وإيجه وقبرص.
هناك حديث عن عشرات الآلاف من المرتزقة والمتعاونين مع أميركا خلال العقدين الأخيرين في أفغانستان، وضرورة إخراجهم من البلاد لحمايتهم من غضب طالبان. وقد أعلنت واشنطن أنّها ستستقبل جزءاً منهم، وسيهرب جزء آخر إلى دول الجوار الأفغاني. لكنّ النسبة الكبرى، حسب المعارضة التركية، ستحاول العبور إلى تركيا عبر الأراضي الإيرانية، إمّا للبقاء أو للتوجّه إلى أوروبا عبر الأراضي اليونانية. ستوتّر موجات اللجوء الأفغانية الكبيرة هذه العلاقات التركية اليونانية أكثر ممّا هي متوتّرة بسبب اللاجئين السوريين والعراقيين والأفارقة. الهدف هو إنشاء المخيّمات داخل الأراضي التركية، وقطع الطريق على وصولهم إلى أوروبا. وهذا هو التعهّد الأميركي لليونان مقابل فتح أراضيها أمام التمركز والنفوذ العسكريّيْن الأميركيّين هناك. وهذا أيضاً من بين ما يُقلِق أنقرة.
تحت عنوان “الحلّ الأطلسي” تحشد أميركا مئات الجنود والدبابات والقطع العسكرية في الميناء اليوناني القريب من الحدود التركية. تستثمر أميركا منذ عقد في هذا المكان، وتوقِّع العقود الاستراتيجية مع أثينا أو تعدِّل النصوص القديمة لإضافة المواد التي تمنحها المزيد من النفوذ والثقل العسكريين والاقتصاديين هناك. هي تفعل ذلك بغطاء أطلسي وموافقة أوروبية وقلق تركي ورصد ومتابعة روسيّيْن.
إقرأ أيضاً: هل أرسلت تركيا 7 آلاف سوري إلى أوكرانيا لمحاربة الروس؟
بدل أن تشجّع واشنطن حليفيْها التركي واليوناني على الالتزام بنصوص اتفاق لوزان، وإبقاء المنطقة بعيدة عن سباق التسلّح، تتحوّل إلى طرف أساسي في خرق الاتفاقات، وتنشر قواتها العسكرية كخطّ مواجهة أوّل لأيّ مخطّط تركي لاجتياح برّي للأراضي اليونانية في تراقيا. الهدف في العلن هو مواجهة التمدّد والنفوذ الروسيّين في شرق المتوسط والبلقان والبحر الأسود عبر الانتشار في بحر إيجه، والتمركز في جزر المتوسط اليونانية. لكنّ الهدف غير المعلن هو رصد التحرّك العسكري التركي وتضييق الخناق عليه.
لم تعد المسألة تتعلّق بمحاولات أميركية لإبقاء تركيا بعيدة عن روسيا. إنّ خيارات تركيا الأطلسية والأوروبية ستحدّدها بعد الآن طريقة تعاملها مع ملفّات إقليمية تُقلق الطرفين أوّلاً، ومدى استعدادها لمراجعة سياستها الروسية وتغيير أسلوبها حيال حلفاء واشنطن في المنطقة ثانياً.