منذ أيام، في إحدى الحلقات التلفزيونية المسائية التي تناقش قضايا الساعة، كان لافتاً إيحاء ضيوف مسيحيّين، ومن دون مواربة، بأنّ “المسلمين فجّروا مرفأ بيروت المسيحي”. وكان الدكتور رضوان السيد قد كتب قبل أسابيع مقالاً في “أساس” بعنوان: “المسلمون لم يفجّروا مرفأ بيروت”.
هكذا تحوّلت قضية التحقيق في تفجير المرفأ إلى ملف يهدّد بتفجير البلد عبر تعزيز الانقسام المسيحي المسلم فيه، وتحديداً الانقسام المسيحي – السنّيّ، بعد التصعيد الذي شهدته الساحة السنّيّة من دار الفتوى، إن في بيان المجلس الشرعيّ الإسلامي الأعلى، أو في كلام النائب نهاد المشنوق الذي قال إنّ القاضي العدليّ طارق البيطار “يأتمر من المستشار الرئاسي سليم جريصاتي”.
تؤكّد مصادر مقرّبة من الراعي أنّ كلامه من بعبدا لم يكن دخولاً في الانقسام المسيحيّ-السنّيّ في البلاد، وأنّ سبب زيارته كان توفير الدعم للمدارس الكاثوليكية
يأتي الكلام التلفزيوني هذا في سياق المواقف المعلنة للقوى السياسية الطائفية في البلاد من التحقيق الذي يقوم به البيطار. هي المواقف التي بدأ تُعِدّ عُدّة الخطاب المذهبي لاستخدامه في المعركة الانتخابية.
فهل دخلت بكركي إلى الساحة الانتخابية المسيحية؟
“لا خوف من أن ينطلق لبنان إلى الأمام، وأن تعود الحياة كما كانت، شرط ألا يتعاطى السياسيون بالحكومة والوزراء والعدالة، وألا تتعاطى الطوائف بالعدالة. فنحن بلد يفصل بين الدين والدولة”. هذا هو موقف البطريرك مار بشارة بطرس الراعي الذي أدلى به من قصر بعبدا بعد لقائه رئيس الجمهورية ميشال عون. أثار هذا الكلام مجموعة من التساؤلات عن سبب دخول بكركي إلى ساحة الانقسام المسيحي-السنّيّ في البلاد، ولا سيّما أنّ الراعي من دعاة التمسّك بالدستور والطائف والمناصفة. وهو الذي سبق أن أكّد أمام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أنّ الأزمة في لبنان ليست بين المسيحيين والسنّة.
فما الذي تغيّر في مفهوم بكركي لتدخل في الاصطفاف الطائفي حول تفجير المرفأ؟ ولماذا يُجيز البعض تدخّل بكركي في الدعوة إلى تحصين العدالة عبر تحصين القاضي طارق البيطار، ولا يُجيز لدار الفتوى التدخّل لمنع استهداف الطائفة السنّيّة، عبر النائب نهاد المشنوق والرئيس حسّان دياب، بتحميلها مسؤولية جريمة كجريمة تفجير المرفأ؟
كلّها تساؤلات تتشابك مع أسئلة يوجّهها البعض إلى القاضي البيطار عن سبب عدم تضمين تحقيقه مسؤولية “الجميع”، وليس التركيز على بعض الشخصيات دون غيرها. ومنها أسئلة تتعلّق بسبب عدم استدعائه الشخصيّات التي كانت تتولّى مراكز المسؤولية لدى وقوع التفجير، وتحديداً في وزارتيْ الداخلية والدفاع، وفي المراكز الإدارية التابعة لهما التي ترتبط وظائفها بشكل مباشر بإدارة المرفأ.
فهل يحظى هؤلاء بغطاء سياسي يمنع عنهم المساءلة أم لدى القاضي البيطار ما هو غير معلن من التحقيقات؟
بحسب معلومات “أساس”، سُئِلَ القاضي البيطار عن سبب “انتقائه” بعض الشخصيات للتحقيق معها، ثمّ سُئِل عن الكلام عن إهماله الشقّ المتعلّق بمصدر الموادّ المتفجّرة، وسبب وصولها إلى لبنان، وخروج قسم منها من المرفأ، وتركيزه على الشقّ المتعلّق بالإهمال الوظيفي. فأجاب بأنّ “هناك أجوبة على كل هذه التساؤلات، وكل شيء في حينه”. اعتبر متابعون أن “لا أحد يمكنه أن يعرف ماذا سيتضمّن القرار الظنّيّ للقاضي البيطار، وبالتالي لا يمكن اتّهامه بالتقصير”.
غير أنّ هذه الأجواء، التي تحيط بالتحقيق، لا تكفي فريقاً طائفيّاً أساسيّاً في البلاد يتمثّل بدار الفتوى، التي سبق أن استقبلت أهالي الضحايا في بداية التحقيق، واعدةً بألا توفّر الحمايات السياسية لأحد من المسؤولين. غير أنّ مسار تطييف القضية أعاد حسابات دار الفتوى التي تتخوّف من استهداف رئاسة الحكومة ووزراء سُنّة. ثمّ ما لبث أن رسّخ هذا التطييف الانقسام الطائفي السياسي في البلاد حول مهمّة البيطار الذي بات يحمل في جعبته واحداً من أخطر الملفّات المتفجّرة في البلاد.
من جهتها، تنفي بكركي خبر استقبالها قائد الجيش السابق جان قهوجي، وخبر استقبالها قاضي التحقيق طارق البيطار، على الرغم من المعلومات التي تحدّثت عن ذلك. وتؤكّد مصادر مقرّبة من الراعي أنّ كلامه من بعبدا لم يكن دخولاً في الانقسام المسيحيّ-السنّيّ في البلاد، وأنّ سبب زيارته كان توفير الدعم للمدارس الكاثوليكية.
وكانت بكركي استقبلت أيضاً وفداً من دار الفتوى ممثِّلاً مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان. وقد حمل الوفد معه تحذيراً من “الاستنسابية في التحقيقات في جريمة العصر”. وأبلغ الوفد البطريرك موقف دار الفتوى بضرورة رفع الحصانات عن جميع الذين كانوا في سدّة المسؤولية، رئاسيةً كانت أو وزاريّة أو نيابيّة أو إداريّة أو أمنيّة، وإن تطلّب ذلك تعليق بعض الموادّ الدستورية ورفع الحصانات عن الجميع، وعدم الاكتفاء بالتحقيق في التقصير والإهمال الوظيفي والإداري.
إقرأ أيضاً: لماذا غاب البيطار عن قصر العدل..؟
من جهته، أكّد الراعي للوفد أنّ بكركي لن توفّر غطاء لأيّ مسؤول. هذا وسيتحدّث الراعي عن موقف بكركي من ملف التحقيق في انفجار مرفأ بيروت في عظة اليوم الأحد. وسيعيد تأكيد ما أعلنه في القدّاس الإلهي، في المرفأ في الرابع من آب، من ضرورة حماية العدالة في التحقيق، وتأكيد أن لا حصانة لأحد في هذا الملفّ.
لن تكفي كلّ هذه الدعوات لإخماد فتيل الانقسام الطائفي في البلاد حول التفجير ما لم يسارع القاضي البيطار إلى إصدار قراره الظنّيّ، لعلّه في ذلك يجيب على كل الأسئلة الشائكة المحيطة بالملفّ.