ارتفع منسوب التفاؤل خلال اليومين الماضييْن في ما يخصّ أزمة المحروقات، وسط حديث عن توقيع حاكم المصرف المركزي اعتماداتٍ كافيةً لتسديد المستحقّات القديمة المترتّبة على الشركات المستورِدة، بالإضافة إلى موافقات مسبقة تغطّي جميع البواخر التي ستفرّغ حمولتها هذا الأسبوع. وتراجعت أحجام الطوابير أمام محطات الوقود إلى بضع أمتار بدلاً من مئات الأمتار.
أنباء توحي بأنّ ثمّة ما يكفي من موادّ لتغذية السوق بالمحروقات خلال الفترة المقبلة، ولو بشكل مقنّن كما يجري الآن، بعدما باتت الطوابير الطويلة جزءاً من آليّة عمل السوق التي سلّم الجميع بوجودها. ولعلّ تراجع حجم الطوابير خلال اليومين الماضيين، وقِصر مدّة الانتظار فيها، بالإضافة إلى التحسّن النسبيّ في عدد المحطّات غير المقفلة، زاد من منسوب التفاؤل هذا.
لكن بمعزل عن كلّ هذا التفاؤل، من الأكيد أنّ ما يجري اليوم لا يتجاوز حدود الحلحلة المؤقتة والمحدودة الأثر، التي لن يدوم مفعولها لفترة تتجاوز نهاية الأسبوع المقبل بعدما خصّص مصرف لبنان ما يقارب 160 مليون دولار لتوفير حاجات السوق من المحروقات. وفي المحصّلة ستعود الأزمة إلى نقطة الصفر، نظراً إلى عدّة عوامل تتحكّم اليوم بهذا السوق وآليات تمويله:
يشير البعض اليوم إلى أنّ كل ما يجري حاليّاً ليس سوى ترقيعات محدودة الأثر، بانتظار الوصول إلى مرحلة رفع الدعم الكلّيّ مهما كانت الكلفة على المستوى المعيشي
أوّلاً: حتّى اللحظة، انحصرت التسوية التي أفضت في قصر بعبدا إلى عودة دعم مصرف لبنان لاستيراد المحروقات مقابل رفع سعر الصرف المعتمد للدعم بفترة زمنيّة لا تتجاوز ثلاثة أشهر، مع إدراك الجميع لكون هذه الفترة مجرّد مرحلة انتقاليّة قبل الخروج من آليّات الدعم الحاليّة بشكل كامل. ولهذا السبب، فثمّة جزء كبير من الموادّ، التي تُضَخّ في السوق، لا يزال يُخزَّن، إمّا تحسّباً لعودة انقطاع هذه المواد، وإمّا استباقاً لرفع الدعم وارتفاع الأسعار لاحقاً. ويُعزِّز من هذا التوجّه، إلى حدٍّ كبير، نشوءُ شبكات البيع والتخزين في السوق السوداء.
ثانياً: رُفِع سعر الصرف المعتمد لاستيراد المحروقات من 1507.5 إلى 3900 ليرة لبنانيّة مقابل الدولار، لكنّ سعر الصرف الفعلي ارتفع في السوق السوداء إلى مستويات تراوح اليوم بين 19.000 و20.000 ليرة مقابل الدولار الواحد. وبذلك، ارتفع الفارق بين قيمة المحروقات الفعليّة بالدولار النقدي، وقيمتها المدعومة بالليرة في السوق المحليّة، أي أنّ الربح من عمليات تهريب المحروقات إلى الخارج ارتفع بدل أن ينخفض. وفي كلّ الحالات، بات من الواضح للجميع أنّ ظاهرة التهريب لن تنحسر خلال المرحلة المقبلة ما دام بين السعرين فارقٌ، وهو ما سيُبقي الأزمة على حالها.
ثالثاً: لا يزال مصرف لبنان يصرّ في جميع البيانات على مبدأ عدم المساس بالاحتياطات الإلزاميّة الموجودة لديه، ولكنّه يؤكّد أنّ إقراض الحكومة بعض السيولة من هذه الاحتياطات ممكنٌ، إنّما وفق آليّة خاصّة تضمن تسجيلها قروضاً على الدولة. ولم تتّضح حتّى الآن هذه الآليّة ولا مدى استعداد رئيس الحكومة للدخول بآليّات تمويليّة تسجّل هذا النوع من القروض على الدولة اللبنانيّة. وبذلك يصبح من الواضح أنّ ما يجري الآن هو استنزافٌ لآخِر مكامن السيولة المتاح استعمالها لدى مصرف لبنان، قبل العودة إلى أزمة شحّ الاعتمادات مجدّداً.
رابعاً: لا يزال ارتفاع أسعار المحروقات عالمياً يضغط على احتياطات مصرف لبنان وقدرته على تمويل الاستيراد، إذ يراوح سعر برميل خام أوبك اليوم عند مستويات تتخطّى 74 دولاراً للبرميل، مقارنةً بمستويات تقارب 43 دولاراً للبرميل في بداية شهر آب من العام الماضي، فتكون كلفة استيراد المحروقات قد ارتفعت بنحو 72% بين الفترتين. وفي الوقت الراهن، يتوقّع الكثير من الخبراء ارتفاع برميل النفط إلى مستويات يمكن أن تتجاوز 100 دولار أميركي قبل نهاية العام، نتيجة ارتفاع الطلب على النفط بالتوازي مع انتعاش الأسواق العالميّة، ولذلك سيكون الاستمرار بتمويل استيراد المحروقات بالوتيرة نفسها مسألةً غير واقعيّة.
تشير مصادر المصرف المركزي إلى أنّ المصرف أبلغ كلّ مَن يعنيه الأمر في الحكومة ووزارة الطاقة أنّ الاستمرار بأيّ شكل من أشكال الدعم بعد شهر أيلول المقبل لن يكون متاحاً بالنظر إلى مستويات السيولة المتبقّية ووتيرة استنزافها الحاليّة
لكلّ هذه الأسباب، يشير البعض اليوم إلى أنّ كل ما يجري حاليّاً ليس سوى ترقيعات محدودة الأثر، بانتظار الوصول إلى مرحلة رفع الدعم الكلّيّ مهما كانت الكلفة على المستوى المعيشي. وتشير مصادر المصرف المركزي إلى أنّ المصرف أبلغ كلّ مَن يعنيه الأمر في الحكومة ووزارة الطاقة أنّ الاستمرار بأيّ شكل من أشكال الدعم بعد شهر أيلول المقبل لن يكون متاحاً بالنظر إلى مستويات السيولة المتبقّية ووتيرة استنزافها الحاليّة. ويخوض المصرف المركزي مناوشات مع الحكومة حول مستويات السيولة الممكن استعمالها، سواء في ملف الدعم أو في ما يخصّ البطاقة التمويليّة التي يُفترض أن تكون إحدى آليّات الدعم البديلة.
ما يقلق فعليّاً ليس عودة أزمة المحروقات، بعد تقنين الكميّات لبيع المتبقّي منها فيما بعد، قبل الوصول إلى مرحلة رفع الدعم، بل أثرُ الرفع الكامل للدعم لاحقاً على مستويين:
– معدّلات التضخّم بعد ارتفاع كلفة صفيحتيْ البنزين والمازوت، وما سينتج عنه من آثار معيشيّة على مستوى القدرة الشرائيّة، وتحديداً في ظل فشل مشروع البطاقة التمويليّة وعدم وجود التمويل المطلوب لها. فارتفاع كلفة البنزين والمازوت لن يترك أثره على مستوى كلفة النقل فقط، بل سيرفع أيضاً كلفة اشتراكات الكهرباء، والسلع المبيعة في الأسواق التي يتأثّر سعرها بالتكاليف التشغيليّة للمؤسسات التجاريّة.
إقرأ أيضاً: 3 عوامل: الليرة نحو مزيد من التدهور
– ارتفاع سعر الصرف بعد رفع الدعم، خصوصاً بعد أن يلجأ التجّار إلى السوق الموازية للحصول على الدولارات المطلوبة لاستيراد السلع الأساسيّة. وكان يُفترض بمنصّة مصرف لبنان أن تقوم بهذا الدور بالتحديد، لكنّ فشلها في أن تكون سوق التداول الموحّدة لسعر الصرف لن يسمح لها بضبط سعر الصرف.
ولذلك يشير كثيرون إلى أنّ لحظة الارتطام الكبيرة لم تبدأ بعد، بل ستبدأ حال الوصول إلى مرحلة رفع الدعم، خصوصاً إذا استمرّ الفشل الرسمي في التعامل مع جميع الملفّات المتعلّقة بهذا المسار، من المنصّة إلى البطاقة التمويليّة وصولاً إلى مسألة ضبط سعر الصرف والسيطرة على الانهيار السريع في قيمة الليرة اللبنانيّة.