نيقولاس بيلهامNicolas Pelham (The Economist)
كشفت مجلة “The economist” اللثام عن تفاصيل شخصية ومسار عقيلة الرئيس السوري أسماء الأسد، ملقيةً الضوء على أحداث وقصص لم يعرفها الناس من قبل، من شأن الإضاءة عليها الإجابة عن كثير من الأسئلة المبهمة المطروحة حول النظام السوري الحالي، وما ينتظره في الأيام المقبلة.
وهنا الحلقة الثانية من أربع حلقات.
وصلت أسماء إلى دمشق بعد وفاة حافظ الأسد. ووعد بشار الأسد، في خطابه الأوّل، بمكافحة الفساد واعتماد التعدّدية الحزبية في الانتخابات. وأغلق عقب ذلك أحد أكبر سجون سوريا. وبدأ روّاد المقاهي في دمشق يناقشون أمور السياسة على حذر.
وجد بشّار عراقيل أمام إصلاحاته، ولا سيّما من رفاق أبيه. وبدا، خلال أشهر قليلة، أنّ وعوده واهية، وأنّ الهدف منها كان جلب التأييد له كوارث لأبيه. وسرعان ما انقلب على تلك الوعود، فاعتُقل الأكاديميّون
وبدت أسماء زوجةً واعدةً للزعيم السوري الجديد. أمّا حزب البعث العلماني في سوريا فكان أكثر تقبّلاً من معظم البلدان العربية للنساء اللواتي يضطلعن بأدوار عامّة. لكنّ والدة بشار، أنيسة، كانت لها رؤية مختلفة، إذ كانت ترغب بأن يتزوّج ابنها من العشيرة نفسها، لتأسيس أسرة حاكمة طويلة الأمد مثل آل سعود. بل إنّ بعض أفراد الأسرة رأوا أنّ على بشّار التنازل عن الحكم لأنّه تزوّج سنّيّة. ولمّا فشلت أنيسة في إجهاض مشروع الزواج، عملت على إخفائه عن الضوء، فلم يظهر في الأخبار شيء عن هذا الحدث. ولم تُوزَّع صور رسمية عن الزفاف. وقيل لأسماء تكراراً إنّ دورها يقتصر على ولادة وَرَثة لبشّار، والبقاء بعيداً عن الأخبار. وبضغط من والدة بشّار، كان يُشار إلى أسماء في الإعلام على أنّها عقيلة الرئيس، مع احتفاظ أنيسة بلقب “السيدة الأولى”. وكانت حياتها حزينة وسط مناخ كاره لها.
وجد بشّار عراقيل أمام إصلاحاته، ولا سيّما من رفاق أبيه. وبدا، خلال أشهر قليلة، أنّ وعوده واهية، وأنّ الهدف منها كان جلب التأييد له كوارث لأبيه. وسرعان ما انقلب على تلك الوعود، فاعتُقل الأكاديميّون. وانتشرت صوره في الشوارع، حتى كانت أكبر من صور والده. خضعت التجمّعات العامّة لتقييد شديد، حتى الزفاف في فندق كان يحتاج إلى إذن حكومي.
تعاقبت الأحداث الكبرى. زوّد بشار الأسد الأميركيين بأماكن مخصّصة للتحقيق مع الإرهابيين بعد هجمات 11 أيلول 2001. لكنّ الرئيس الأسبق جورج بوش أراد نشر الديموقراطية في العالم العربي، معتبراً سوريا هدفه التالي. وهو ما جعل بشّار يقلب المسار من التعاون مع الأميركيين إلى إرسال الجهاديين إلى العراق لقتال الجيش الأميركي.
ومع تعزيز بشّار لسلطته، قامت أسماء بواجبها كحاضنة. أنجبت ثلاثة أطفال في تعاقب سريع، ابنيْن وبنت. احتفظت بزيّ العاملة في المصرف. والمرّات الوحيدة، التي تصدّرت فيها عناوين الصحف، كانت أثناء رحلاتها إلى الخارج. لكنّ حدثاً كبيراً عزّز موقعها في السلطة، وهو اغتيال أحد أشهر سياسيّي لبنان رفيق الحريري في عيد الحبّ في الرابع عشر من شباط من عام 2005.
فقد اضطرّ بشّار إلى سحب جيشه من لبنان تحت وقع التهديد بالعقوبات والتظاهرات الكبيرة في بيروت. واحتاج في هذه اللحظة الصعبة إلى دعم زوجته الإنكليزية أسماء. بالمقابل، وعدها بتهميش أقربائه، وبمنحها لقب “السيدة الأولى”، مع أنّ الإعلام الرسمي لم يستعمل لقبها هذا قبل وفاة أنيسة عام 2016. بعد شهرين من اغتيال الحريري، كانت أسماء إلى جانب زوجها في جنازة البابا يوحنا بولس الثاني. كانت لحظة فاصلة بالنسبة إلى الزوجين. لقد قامت بدور محوري في إعادة تأهيل زوجها دوليّاً، فكانت سفيرته إلى كلّ البلدان التي لا يستطيع التواصل معها.
اضطرّ بشّار إلى سحب جيشه من لبنان تحت وقع التهديد بالعقوبات والتظاهرات الكبيرة في بيروت. واحتاج في هذه اللحظة الصعبة إلى دعم زوجته الإنكليزية أسماء
في جانب آخر، استعرض الثنائي تواضعهما، من خلال ترك القصر المرخّم الذي بناه السعوديون لآل الأسد بكلفة مليار دولار، وسكنا في منزل متواضع قريب مؤلّف من ثلاث طبقات. وكانت أسماء تُعيد أطفالها بنفسها من مدرسة المنتسوري (Montessori) المحلّية كلّ يوم. وفي المنزل هي تخدم زوجها وأطفالها والضيوف.
وبمساعدة مصفّفة شعر جديدة، ظهرت أسماء بإطلالة مختلفة. أظافرها كانت مشذّبة ومطلية، على الرغم من أنّها ما ارتدت خاتم الزواج، وكذلك بشّار. يتذكّر موظّفو الخطوط الجوية السورية في لندن سيلاً لا ينقطع من الصناديق التي تحتوي على ملابس من أرقى المتاجر الكبرى في لندن. أطلق عليها دبلوماسيون سوريون اسم إيميلدا ماركوس، تيمّناً بالسيدة الفيليبينيّة الأولى (زوجة الرئيس الأسبق فيرديناند ماركوس)، التي كانت مدمنة على شراء الأحذية. نجحت حملة أسماء، فبعد أشهر من اغتيال الحريري، سألت “نيويورك تايمز” عمّا إذا كان الثنائي يمثّل “جوهر الاندماج العلماني العربي الغربي”.
أمّا المشروع الثاني لأسماء فكان سوريا نفسها. فبعد عقود من التخطيط الاقتصادي المركزي والقيود على الاستيراد، أرادت تجديد حياة سوريا. وكما يتذكّر اقتصادي سوري ذو صلة جيّدة بها، فإنّ أسماء خادعت زوجها بلغة ماليّة، ودفعت من أجل انفتاح القطاع المصرفي على الشركات الخاصّة والأجنبية. “لقد أرادت أن تحوّل دمشق إلى دبي إقليمية، ملاذ ضريبي خالٍ من الضوابط المالية”.
لسوء الحظ، هدّد الإصلاح الاقتصادي مصالح الأكثر نفوذاً في سوريا. فكان عليها أن تواجه رامي مخلوف ابن خال الرئيس من خلال العشيرة الأرستقراطية لوالدته. وحسب بعض التقديرات، تسيطر شركات مخلوف على نصف اقتصاد سوريا. وقد حاولت أسماء تحدّي هيمنته عام 2007 من خلال تأسيس شركتها القابضة. ولكنّها لم تتمكّن من جذب ما يكفي من الشركات السورية الوازنة للانضمام إليها، إذ بقيت إلى حدٍّ كبير في دائرة مخلوف. وسيتعيّن على خططها للاقتصاد السوري أن تنتظر بعض الوقت. وسرعان ما وجدت أسماء طريقة جديدة لتوسيع نفوذها. كانت قد نشطت في العمل الخيري في وقت مبكر من زواجها، وتسعى الآن لتوحيد مشاريعها داخل منظمة واحدة، “الأمانة السورية للتنمية Syria Trust for Developement”.
هدفت أسماء إلى جعل هذه المنظمة هي القناة الرئيسة التي تواجه سوريا من خلالها العالم، فجنّدت سوريين ناطقين باللغة الإنكليزية يعيشون في الخارج، ومسؤولين سابقين في الأمم المتحدة، واستراتيجيين من مجموعة مونيتور، وهي شركة استشارية إدارية مقرّها بوسطن، حتّى استعانت بابنة دبلوماسي ألماني. ويتذكّر دبلوماسي، كان آنذاك في دمشق، قائلاً: “لقد جرى ترخيصها للتعامل مع الأجانب عندما لم تكن هناك هيئات أخرى”.
مع المناظر الطبيعية الوعرة والثروات الأثرية، رأت أسماء أنّ على سوريا أن تكون وجهة سياحية مرغوبة. ووظّفت أمناء متحف اللوفر والمتحف البريطاني لإعادة تصميم وسط دمشق. وسيصبح مصنع للإسمنت معرضاً على غرار تيت مودرن (Tate Modern) في لندن. وكان من المقرّر تجديد ضفاف نهر قذر يمرّ عبر المدينة كحديقة ثقافية، وإنشاء خطّ سكك حديدية جديد لربط دمشق بالمدن الآشورية القديمة في الشمال الشرقي المتخلّف.
وفي معظم الأحيان، أيّد الدبلوماسيون الغربيون في دمشق بكلّ سرور المنظمة التي أسّستها أسماء. لقد أعجبت الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والبنك الدولي وقطر، وأسفرت عن ضخّ ملايين الدولارات لتمويل رؤيتها. احتفلت سلسلة من المقالات الصحافية بـ”النهضة الثقافية” في دمشق، كما سمّتها أسماء. وقال بشار: “هكذا يُحارَب التطرّف – من خلال الفن”.
نجم أسماء في تصاعد، أخذت الصورة الدولية لسوريا في التحسّن أيضاً. بدأ المسؤولون الأميركيون يزورون دمشق مرة أخرى، ولا سيّما بعد انتخاب باراك أوباما في عام 2008
لكنّ زملاءها رأوا فيها جانباً مختلفاً. ففي يوم جيّد، تكون “فضولية جدّاً” و”ذات استيعاب مثير للدهشة”، وفقاً لموظّف سابق. لكنّ مستشاراً آخر تذكّر “مزاجها الشبيه بالأميرة. كانت تصرخ وتنفث”. (استقال بعد ثمانية أشهر). “إنّها مهووسة بالسيطرة، شخص مخيف”. وكانت فعّالة أيضاً. قال شخص عمل لديها في دمشق لمدّة ست سنوات: “كان من المستغرب كم مرّة قالت: “أودّ أن يحدث شيء ما”، وحدث ذلك”.
استأجرت أسماء شركات العلاقات العامة في بريطانيا وأميركا لتلميع صورتها. فجاؤوا ببرلمانيين من جميع أنحاء العالم ليُعجَبوا بأعمالها الصالحة. جاء المشاهير إلى دمشق، بمن فيهم أنجلينا جولي، وبراد بيت، وستينغ، ودامون ألبارن. دعا المفتي اليهود السوريين الذين فرّوا من الاضطهاد قبل عقود للمجيء إلى سوريا. وقامت شركة براون لويد جيمس، وهي شركة أميركية للعلاقات العامة، بترتيب قصّة غلاف في مجلة فوغ (Vogue) في آذار 2011، بحيث وُصفت أسماء على أنّها “وردة في الصحراء” مصمّمة على تحويل سوريا إلى “علامة تجارية”.
عاش المستشارون الأجانب لمنظمة “الأمانة” في فقاعة مذهّبة في دمشق: فقد طلبوا السوشي من خدمة الغرف، ونالوا رواتب كبيرة، وهم يتجاذبون الحديث بشأن بناء القدرات. وقال سمير عيطة، مستشار وزارة المال: “لم يكن لدى كثير من القرى مياه الصرف الصحي أو الكهرباء المناسبة، وأتت مع مستشاريها وتحدّثت عن ريادة الأعمال والمجتمع المدني والتنمية المستدامة والتدريب على صنع الجبن”.
وبحسب عيطة فإنّ أسماء “اعتقدت أنّ الأمانة السورية للتنمية سوف تحافظ على كلّ شيء، لكنّ الأمر كلّه لم يكن سوى مجرّد أناس بلهاء يتحدّثون الإنكليزية مع الفلّاحين الفقراء”. حتى إنّ بعض الموظفين سألوا عمّا إذا كانت “الأمانة” مجرّد وسيلة لتفخيم أسماء نفسها، إذ كان متوقّعاً أن يخاطبها المستشارون على أنّها “صاحبة السعادة Your Excellency” وأن يقفوا عندما تدخل الغرفة. ويؤكّد أحد المساعدين السابقين أنّ أسماء كانت ملتزمة حقّاً بتحرير اقتصاد سوريا. والبعض الآخر غير مقتنع. “هل كان هذا حقيقيّاً؟ هذا هو السؤال الذي طرحته على نفسي”، يقول دبلوماسي غربي عمل في دمشق في ذلك الوقت.
وكان من بين أولئك الذين أفادوا جيداً من صعود أسماء والدها فواز الأخرس. بعد وقت وجيز من زواج أسماء وبشّار، أنشأ والدها الجمعية البريطانية السورية، وهي منظمة في لندن حشدت الدعم السياسي والمالي لسوريا. ونسّق أنشطة الجمعية مع منظمة أسماء، وجذب حشداً من السوريين الأغنياء.
إقرأ أيضاً: حكاية أسماء الأسد (1/4): المصرفية.. التي استحوذت على سوريا
كان والد أسماء طبيب قلب يعمل في مستشفى خاص في كنسينغتون (Kensington)، ومعروف باهتمامه بجمع المال. يقول المرضى إنّه كان يطلب دفعة نقدية مقدّماً، ويشير المدافعون عنه إلى أنّه عاش لعقود في المنزل المتواضع شبه المنفصل بالقرب من طريق سريع مزدحم في غرب لندن. إذ أنّ تاريخاً طويلاً من السياسة العنيفة علّم السوريين إخفاء ثرواتهم.
ولمّا كان نجم أسماء في تصاعد، أخذت الصورة الدولية لسوريا في التحسّن أيضاً. بدأ المسؤولون الأميركيون يزورون دمشق مرة أخرى، ولا سيّما بعد انتخاب باراك أوباما في عام 2008. ويُشاع أنّه كان ثمّة دعوة معلّقة لزيارة واشنطن. أمّا الفرنسيون فكانوا أكثر تعاطفاً، طارد المصوّرون الأسد وزوجته عندما زاروا باريس. وأشادت صحيفة “باري ماتش” بأسماء لتسليطها “الضوء في بلد ممتلئ بالظلال”.
* غداً في الحلقة الثالثة: الثورة السورية وخيبة أمل أسماء الأسد (3/4)
لقراءة النصّ الأصليّ اضغط هنا