عن السلاح… الذي “سرق” انتصار أهل القدس

مدة القراءة 7 د

هل كانت فلسطين ستنتصر، بالقدس، وبابتسامات شاباتها وشبّانها؟ أم كان لا بدّ من الصواريخ؟ وهل سرقت حماس هذا النصر، وحوّلته إلى مكسب سياسي لها ولراعيتها الرئيسة إيران، فوق دماء وركام قطاع غزّة؟

منذ بداياته فرض الحدث الفلسطيني في حيّ الشيخ جراح بالقدس نفسه على قائمة الأحداث العالمية. حتّى إنّه كان مرشّحاً لكي يصبح قضية رأي عامّ عالمي، متضامنة مع أهل القدس العرب، بوجه الشرطة الإسرائيلية، بالنظر إلى كثافته الأخلاقية والسياسية لولا تحولّ الأنظار إلى الصراع بين حماس وإسرائيل.

لقد أعادت المواجهات بين أبناء هذا الحيّ وقوات الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنين، التذكير بأصل القضية الفلسطينية بوصفها قضية شعب يدافع عن حقّه في أرضه، والتأكيد في الوقت نفسه أنّ إسرائيل لمّا تزل هي هي، دولة فصل عنصري تماهي بين قوميّتها الجغرافية وهويّتها الدينية.

لذلك سرعان ما دلّ تعاطف رأي عام دولي عريض مع مقدسيي الشيخ جرّاح إلى توسّع مساحات الوعي العالمي المتضامن مع الفلسطينيين، خوصاً في ظلّ تجذّر سياسات الاستيطان الإسرائيلية ومظاهر التطرّف الصهيوني العنصري ضدّ الفلسطينيين، ولا سيّما “عرب الـ48”.

فالدعاية الصهيونية التي ارتكزت أساساً على إبراز مآسي اضطهاد اليهود في أوروبا وصولاً إلى “الهولوكوست”، ما عاد لها الوقع والتأثير أنفسهما على الوعي العالمي، ولا سيّما الغربي. لأنّ مناحي التطرّف العنفيّ الإسرائيلي ضدّ الفلسطينيين الآخذة في التفاقم أكثر فأكثر، أثبتت أحقّيّة الحجّة الفلسطينية والعربية التاريخية القائلة بأنّ الإسرائيليين تحوّلوا من ضحايا في أوروبا إلى جلّادين في فلسطين.

لقد أعادت المواجهات بين أبناء هذا الحيّ وقوات الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنين، التذكير بأصل القضية الفلسطينية بوصفها قضية شعب يدافع عن حقّه في أرضه، والتأكيد في الوقت نفسه أنّ إسرائيل لمّا تزل هي هي، دولة فصل عنصري تماهي بين قوميّتها الجغرافية وهويّتها الدينية

والحال هذه، يشهد الوعي الغربي تحوّلات جذرية في مقاربته للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إذ تنمو داخله اتجاهات للنظر إلى هذا الصراع لا من زاوية عقدة الذنب الأوروبية تجاه اليهود، بل من زاوية حقوق الفلسطينيين، ولا سيما فلسطينيّي الداخل، التي تنتهكها السياسات الاستيطانية والعنصرية الإسرائيلية. وهذه نقطة قوّة للفلسطينيين والعرب إذا أحسنوا الاستفادة منها.  

كذلك فإنّ أحد أسباب كثافة حدث حيّ الشيخ جرّاح، بوصفه حدثاً فلسطينياً صافياً، أنّه يعيد وضع الخريطة السياسية العربية تحت المجهر، انطلاقاً من القضية الفلسطينية نفسها. إذ يعيد الربط بين هذه القضية والقضايا العربية، ولا سيّما تلك المتعلقة بـ”دول الطوق” لأنّها كانت الأكثر تأثّراً بالصراع العربي الإسرائيلي لا من ناحية تبعات الحروب عليها، بل أيضاً من ناحية الوقائع السياسية التي خلقها هذا الصراع في داخلها.

فقيام أنظمة عسكرية متفاوتة الكثافة الاستبدادية في هذه الدول بحجّة أولوية المواجهة مع إسرائيل أدى إلى نشوء اغترابات بين شعوب هذه الدول وأنظمتها أدّت بدورها في نهاية الأمر، وتحديداً في سوريا، إلى حروب أهلية وتهجير ممنهج لفئات من السكّان تذكّر بالممارسات الصهيونية التاريخية. ولذلك سرعان ما يعيد أيّ حدث فلسطيني متّصل بأساس الصراع مع إسرائيل إنتاج الوعي التاريخي لتبعات هذا الصراع لا على الفلسطينيين وحسب، بل على العرب جميعاً، ولا سيّما شعوب “دول الطوق”.

إلى ذلك، تزيد قراءة هذا الحدث الفلسطيني، في ضوء التطوّرات السياسيّة والعسكرية في المنطقة، من كثافته، خصوصاً أنّ إطلاق حماس لأوّل صاروخ على إسرائيل كان بمنزلة تحوّل كبير في مجريات هذا الحدث إذ أدخله مباشرة في سياق الصراع الإيراني – الإسرائيلي.

عليه، حوّلت صواريخ حماس الاهتمام العالمي بالحدث الفلسطيني من حيّ الشيخ جراح إلى غزّة. وهذا التحوّل ليس جغرافياً وحسب بل هو سياسيّ بالدرجة الأولى. إذ أرادت إيران، عبر صواريخ حماس، استثمار هذا الحدث الاستثنائي في كثافته ودلالاته التاريخية والأخلاقية لتوظيفه في معادلات المواجهة مع الولايات المتحدة ولتمكين سياساتها الإقليمية التوسّعية.

الأهمّ أنّ حركة حماس، بإمرتها العسكرية الإيرانية المباشرة، كانت غايتها منع تبلور أيّ مسار نضالي “مستقلّ” للفلسطينيين في مواجهتهم مع قوات الاحتلال، ولا سيّما أنّ قضيّة حيّ الشيخ جراح أضاءت على التحوّلات العالمية المهمّة في مقاربة القضية الفلسطينية، وكانت في طريقها إلى تحقيق ضربة موجعة، لا بل الانتصار على العنصرية الصهيونية المتأصّلة في ظلّ المأزق السياسي الذي تتخبّط فيه إسرائيل والذي دفع بها أكثر نحو توسيع السياسات الاستيطانية والعنصرية العنفية.

في النتيجة، قطعت طهران وحماس الطريق نحو هذا الانتصار، الذي كان يمكن أن يؤسّس لتفاعل دولي وإعلامي وشعبي مختلف مع القضية الفلسطينية، لأنّ مواجهات الشيخ جراح وساحة باب العمود أعادت تأكيد الصفاء الأخلاقي والسياسي لهذه القضية بوصفها قضية شعب يواجه سياسات فصل عنصري.

ويحيل تدخّل إيران في الحدث الفلسطيني إلى توغّلها في المنطقة، بوصفه توغّلاً يؤبّد الاختلال السياسي الديموقراطي في دول النفوذ الإيراني. لأنّ تأبيد هذا الاختلال كفيل بتوفير شروط هذا التوغّل عبر السياسات الفئوية للأنظمة السياسية، التي تنتج باستمرار نزاعات وحروباً أهلية.

تزيد قراءة هذا الحدث الفلسطيني، في ضوء التطوّرات السياسيّة والعسكرية في المنطقة، من كثافته، خصوصاً أنّ إطلاق حماس لأوّل صاروخ على إسرائيل كان بمنزلة تحوّل كبير في مجريات هذا الحدث إذ أدخله مباشرة في سياق الصراع الإيراني – الإسرائيلي

وإذا كانت إسرائيل قد استفادت تاريخياً من اللااستقرار السياسي والأمني في المنطقة، لا بل كانت إحدى أدوات إنتاجه، فهي تستفيد اليوم من التوسّع الإيراني في المنطقة بوصفه أحد العوامل الرئيسة للفوضى الأمنية والسياسيّة فيها، وخصوصاً بعد اندلاع “الربيع العربي”، الذي كان ردّاً تاريخيّاً على الاستبداد السياسي الذي تذرّع بمحاربة إسرائيل للدفاع عن استبداده… فإذا بإيران وأذرعها يعيدون إنتاج المعادلة نفسها.

وليس قليل الدلالة أن تكون إسرائيل قد زادت من وتيرة عدوانها على الفلسطينيين بعد “الربيع العربي”، وحجّتها أنّه لا توجد معايير أخلاقية للصراعات في المنطقة، والدليل أنّ أنظمة عربية تدّعي التصدّي لإسرائيل تجاوزت في عدوانيّتها على فئات من شعبها مقدار العدوانية الصهيونية على الفلسطينيين والعرب.

إقرأ أيضاً: حياد البطريرك: لا للبنان المنصّة

وإذا كانت مجازر هذه الأنظمة بحقّ شعبها قد شكّلت غطاءً للممارسات العدوانية الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين، فإنّ تصدّي أبناء الشيخ جراح والمقدسيين للإسرائيليين كان كسراً لهذه الحلقة الجهنّمية، إذ أكّد على الرابط الأخلاقي والسياسي بين مواجهة الفلسطينيين لسياسات الإحتلال، وبين نضالات شعوب عربية ضدّ استبداد أنظمة الحكم فيها، التي حاولت التغطية على فئويتها بادعّاء التصدّي لإسرائيل… ففي كلا الحالتين هناك مواجهة بين ظالم ومظلوم.

الخلاصة أنّ حماس وطهران، بدخولهما على الحدث المقدسي، أجهضتا الإنتصار الصافي لأبناء الشيخ جراح، ومنعتا أيّ محاولة لشقّ طرق جديدة للمواجهة الفلسطينية الإسرائيلية في ظلّ المأزق السياسي والأخلاقي الإسرائيلي، وفي ظلّ التحوّلات العالمية لمقاربة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في ضوء هذا المأزق… ثمّ يزايد أنصارهما بوقاحة وفجور استثنائيّيْن في دعم القضية الفلسطينية!       

 

مواضيع ذات صلة

هوكستين موفد ترامب… فهل يضغط لإنجاز الاتّفاق؟

كثيرٌ من الضبابية يحيط بمصير المفاوضات التي قادها آموس هوكستين بين لبنان وإسرائيل، أو بالأحرى بين “الحزب” وإسرئيل، عبر رئيس مجلس النواب نبيه برّي. التفاؤل…

الاتّفاق Done: إعلانه خلال أيّام.. أو أسابيع؟

بين واشنطن وتل أبيب وبيروت أصبحت شروط الاتّفاق معروفة، ولا ينقصها سوى لمسات أخيرة قد تستلزم يوماً واحداً، وقد تطول لأسابيع، أربعة ربّما. لكن ما…

“اليوم التّالي” مطعّم بنكهة سعوديّة؟

لم يعد خافياً ارتفاع منسوب اهتمام المملكة العربية السعودية بالملفّ اللبناني. باتت المؤشّرات كثيرة، وتشي بأنّ مرحلة جديدة ستطبع العلاقات الثنائية بين البلدين. الأرجح أنّ…

مخالفات على خطّ اليرزة-السّراي

ضمن سياق الظروف الاستثنائية التي تملي على المسؤولين تجاوز بعض الشكليّات القانونية تأخذ رئاسة الحكومة على وزير الدفاع موريس سليم ارتكابه مخالفة جرى التطنيش حكوميّاً…