تصاعد الاهتمام خلال الفترة الأخيرة بالاتصالات الجارية على المستوى الإقليمي. وبرز إلى الواجهة اللقاء الأخير الذي جرى الشهر الماضي بين ممثّلين عن الرياض وطهران في بغداد، ثمّ اللقاء السعودي – السوري الأمني في دمشق قبل أيام.
واكبت وسائل الإعلام الدولية والإقليمية والداخلية، ومن بينها “أساس”، هذه الاتصالات في العمق. وستبقى هذه الاتصالات في واجهة الاهتمام على المدى القريب بعد عطلة عيد الفطر.
في سياق متّصل، شاع في لبنان، ضمن أوساط قريبة من المحور الإيراني السوري، أنّ مآل هذا الأفق الجديد هو عودة نفوذ النظام السوري إلى لبنان.
فهل هذه الشائعة في محلّها؟
سأل “أساس” أوساطاً دبلوماسية عن معطياتها بشأن استفادة نظام الأسد من هذه الاتصالات غير المسبوقة بين دول كانت حتّى الأمس القريب في محاور متقابلة، وتجييرها لمصلحة عودة نفوذه إلى لبنان، فأجابت بالآتي: “ستكون من دون أدنى شك عودةٌ للنفوذ السوري إلى لبنان، لكنّ نفوذ نظام آخر غير النظام الحالي”. وأوضحت أنّ “مسار نشوء نظام جديد في سوريا مرتبط بقرار مجلس الأمن الدولي2254 ، الذي تبنّاه الأعضاء بالإجماع في 18 كانون الأول 2015، والمتعلّق بوقف إطلاق النار، والتوصّل إلى تسوية سياسية للوضع في سوريا”.
في سياق متّصل، شاع في لبنان، ضمن أوساط قريبة من المحور الإيراني السوري، أنّ مآل هذا الأفق الجديد هو عودة نفوذ النظام السوري إلى لبنان
من خلال مراجعة مضمون القرار، الذي مضى على صدوره أكثر من أربعة أعوام، تبيّن، وفق هذه الأوساط، أنّ “جوهر هذا القرار ما زال حبراً على ورق، خصوصاً لجهة إجراء انتخابات حرّة ونزيهة تحت إشراف الأمم المتحدة، في غضون 18 شهراً. وتضمّن القرار تكرار التأكيد أنّه ما من حلٍّ دائم للأزمة الراهنة في سوريا إلا من خلال عملية سياسية جامعة بقيادة سورية تلبّي التطلّعات المشروعة للشعب السوري، بهدف التنفيذ الكامل لبيان جنيف الصادر في 30 حزيران 2012، الذي أيّده القرار 2118 (عام 2013)، وذلك من خلال عدّة سبل، منها إنشاء هيئة حكم انتقالية جامعة تُخوَّل سلطات تنفيذية كاملة…”. وسألت الأوساط نفسها: “أين واقع سوريا اليوم من هذا القرار الدولي؟ وبالتالي أين هي من الانتخابات الحرّة والنزيهة وهيئة الحكم الانتقالية الجامعة؟”.
لذا رأت الأوساط الدبلوماسية أنّ “الانتخابات الرئاسية، التي يعتزم النظام إجراءها هذا الشهر، لن يكون لها أيّ تأثير على واقع النظام ورئيسه، ولن يستطيع تجييرها للخروج من عزلته الإقليمية والدولية شبه الكاملة. إنّها انتخابات تمثّل فقط استمراراً لأمر واقع مضت عليه عقود ودخل مسار الانحدار منذ بدء الثورة عام 2011”.
ولفتت إلى أنّ “روسيا وإيران تحاولان منح النظام السوري جرعة دعم، لكنّها جرعة لقاح لا مفعول له في مواجهة فيروس العزلة الذي أصاب نظام الأسد قبل أكثر من عقد”.
وعن تفسيرها للانفتاح السعودي على الحوار مع النظامين الإيراني والسوري، قالت الأوساط نفسها إنّ “الرياض ليست مبتدئة في عالم الدبلوماسية كي ترمى بأيّ شبهة في انفتاحها هذا”. وأبلغت “أساس” أنّ “معلوماتها تفيد أنّ صنّاع القرار في المملكة يتعاملون مع هذا التطوّر من منطلق حسابات الرياض مع واشنطن، وليس مع أيّ طرف آخر”. وفي هذا الإطار كشفت الأوساط الدبلوماسية، وربّما للمرّة الأولى، عن الموقف السعودي، وذلك على النحو الآتي:
“لم يعد خافياً أنّ نتائج التغيير في الإدارة الأميركية مع مجيء الرئيس الديموقراطي جو بايدن ورحيل سلفه الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، انعكست على السياسة الخارجية الأميركية في العالم عموماً، والشرق الأوسط خصوصاً. ويكفي هنا الحديث عن أحد جوانب هذا التغيير المتّصل بالاتفاق النووي المعقود مع إيران عام 2015 في آخر ولاية الرئيس الديموقراطي الأسبق باراك أوباما، والذي انسحب منه الرئيس ترامب عام 2018. فها هي الإدارة الأميركية الحالية لا تضع نصب عينها العودة إلى هذا الاتفاق فحسب، بل أيضاً إحلال نهج جديد في العلاقات الأميركية – السعودية غير نهج الانفتاح مع المملكة، الذي بلغ ذروته أيام الرئيس ترامب. وأوّل المؤشرات إلى هذا التبدّل في نهج العلاقات الثنائية ظهر في قرار الإدارة الأميركية رفع تنظيم “الحوثي” اليمني عن لائحة الإرهاب، وكأنّ سجلّ الأخير خالٍ من كل الارتكابات التي جرّت الويلات على اليمن ودفعته إلى مستنقع الانهيار. لكنّ الرياض، وهي تدرك أنّ الإدارة الديموقراطية تنفّذ الآن أجندة وفق حسابات داخلية لا علاقة لها بحقائق الشرق الأوسط، بدأت تنفيذ خطة دبلوماسية مبنيّة على تجارب عميقة تمتدّ إلى عقود طويلة من العلاقات بين المملكة والولايات المتحدة. ومع جنوح الخارجية الأميركية إلى تعويم الذراع الإيرانية في حرب اليمن تحت عنوان “إنهاء حرب اليمن”، بادرت الرياض إلى طرح مبادرة أكثر عمقاً وجدوى لإنهاء هذه الحرب. وفي سعيها جدّيّاً إلى إنهاء الحرب في اليمن، أرادت الرياض أيضاً أن تثبت لواشنطن أنّ طهران، التي تقف وراء هذه الحرب، ليست جادّة على الإطلاق في ملاقاة مبادرة السلام لإنهاء الحرب، سواء كانت تلك المبادرة أميركية أم سعودية”.
أوّل المؤشرات إلى هذا التبدّل في نهج العلاقات الثنائية ظهر في قرار الإدارة الأميركية رفع تنظيم “الحوثي” اليمني عن لائحة الإرهاب
وتابعت الأوساط الدبلوماسية الكشف لـ”أساس” عن الموقف السعودي، فقالت إنّ “حقيقة ما جرى في الحوار السعودي – الإيراني الأخير، خلال الشهر الماضي في بغداد، أنّ طهران هي التي سعت إلى هذا الحوار، من باب الإيحاء بأنّ النظام الإيراني يجنح إلى تطويق النزاعات. وكأنّ طهران تريد أن تبعث إلى الإدارة الأميركية الجديدة برسالة مفادها أنّ الجمهورية الإسلامية مستعدّة لتقديم إثبات أنّها بصدد تغيير سلوكها الخارجي مقابل رفع العقوبات الأميركية عنها، والعودة إلى العمل وفق الاتفاق النووي، الذي تخلّت عنه الإدارة الأميركية السابقة. وقد لمّحت إلى جزء من الموقف الإيراني هذا صحيفة “غارديان” البريطانية، التي أشارت في مستهلّ الشهر الجاري، إلى أنّ المسؤولين الإيرانيين هم من مرّروا في آذار الماضي رسالة إلى القيادة السعودية عبر موفد عراقي تتضمّن رغبة إيرانية في “إنهاء التوتّر مع المملكة بدءاً من اليمن”.
إقرأ أيضاً: مغنيّة قبل سليماني: هكذا تتساقط رموز إيران الأمنيّة
وفي مواجهة هذ المناورة الإيرانية المنسجمة مع ضغط روسي تجلّى في الطلب من دول الخليج العربي الانفتاح على نظام الأسد، تلقّفت الرياض هذا التحدّي بتحدٍّ آخر تمثّل في زيارة وفد أمني دمشق. لكنّ هذا اللقاء لا آفاق له الآن، بحسب هذه الأوساط، إذ “لا تزال عودة سوريا إلى مسار الحياة الطبيعية بعيدةً جداً. وإذا كانت هذه العودة تتطلّب إعمار هذا البلد بكلفة تقدّر بمئات المليارات من الدولارات، فإنّ الضوء الأخضر للبدء بتوفير هذا المبلغ مرتبطٌ بالولايات المتحدة التي تتعامل مع نظام الأسد من منطلق خطّ أحمر”.
وتطرّقت الأوساط الدبلوماسية إلى ما روِّج له عن عودة وشيكة لنفوذ النظام السوري إلى لبنان، فقالت إنّ الأمر أشبه بـ”أحلام يقظة” عند المروّجين لهذه العودة. وأوردت من باب السخرية أنّ “رياض سلامة حاكم مصرف لبنان بحوزته احتياط يبلغ 17 مليار دولار، في حين أنّ الأسد بحوزته صفر دولارات”.
في خلاصة هذا المشهد الدولي والإقليمي، تؤكّد الأوساط الدبلوماسية أنّ النظام السوري خرج من لبنان عام 2005. والآن، بعد مرور 16 عاماً، يمكن التأكيد أنّه لن يعود مرّة أخرى إلى لبنان.