صندوق النقد يرفض تعويم حكومة دياب

مدة القراءة 7 د

كلّما تعقّد مسار تأليف الحكومة لوَّح فريق عمل العهد بمسألة تعويم حكومة الرئيس حسّان دياب وتوسيع نطاق تصريف الأعمال الذي تقوم به، من أجل الضغط على الحريري وتعطيل مفاعيل امتلاكه ورقة التأليف من دون أفق زمني، والعودة إلى العمل كالمعتاد أو “Business as usual” بمعزل عن تطوّرات التفاوض معه على التشكيلة الحكوميّة.

في هذا السياق، جاء الحديث عن محاولات لإنعاش المحادثات مع صندوق النقد الدولي من خلال حكومة دياب، ومحاولات لإقحام الحكومة في إجراءات ماليّة أوسع من تلك التي تخوضها حاليّاً، تمهيداً للسير تدريجيّاً في مسار المعالجات الماليّة. ولعلّ الاجتماع الوزاري المصغّر، الذي عقدته نائبة رئيس الحكومة زينة عكر، وإن أصرّت على تقديمه من زاوية التنسيق بين الوزارات المختلفة، لم يأتِ إلا في إطار الجهود التي تقوم بها بعض مكوّنات الحكومة المستقيلة لتفعيلها وتوسيع نطاق أعمالها وإن تدريجياً.

تؤكّد مصادر استشاريّة واكبت مفاوضات لبنان مع “الصندوق” أنّ جميع الجهات الدوليّة المانحة، ومنها صندوق النقد، أبلغت فرق العمل الحكوميّ أنّها تستبعد حاليّاً عقد أيّ مباحثات ماليّة جدّيّة في ظلّ الحكومة الحاليّة… خصوصاً أنّ هذا النوع من المفاوضات لا بدّ أن يؤدّي إلى التزام لبنان وتعهّده الجدّيّين في ما يخص الملفّات المطروحة، وهو ما لا تملك الحكومة الحاليّة صلاحيّة القيام به من الناحية الدستوريّة ولا من ناحية الغطاء السياسيّ المفقود حاليّاً.

جاء الحديث عن محاولات لإنعاش المحادثات مع صندوق النقد الدولي من خلال حكومة دياب، ومحاولات لإقحام الحكومة في إجراءات ماليّة أوسع من تلك التي تخوضها حاليّاً، تمهيداً للسير تدريجيّاً في مسار المعالجات الماليّة

حتّى لو تراجع حسان دياب عن فكرة الامتناع عن توسيع نطاق تصريف الأعمال، فسيكون مستبعداً أن تقحم الجهات الدوليّة نفسها في تفاهمات مع حكومة يمكن الطعن بمشروعيّة تعهّداتها لاحقاً لأسباب دستوريّة. وما تزال تجربة سقوط خطّة الإصلاح الماليّ السابقة ماثلةً أمامنا، حين فشلت الحكومة في السير في الإصلاحات التي طرحتها خلال مفاوضاتها مع الصندوق، على الرغم من امتلاكها جميع الصلاحيّات الدستوريّة في ذلك الوقت، بسبب فقدانها الغطاء السياسيّ المطلوب للسير بالخطّة.

وأبعد من مسألة التفاوض مع صندوق النقد، يشير الخبراء الماليّون إلى أنّ فكرة التعامل مع الانهيار من خلال حكومة تصريف أعمال على المدى الطويل هي مسألة بعيدة عن الواقع لأنّ الوضع الماليّ الحاليّ يعكس انهياراً واحداً ذا ثلاثة وجوه: وجه نقديّ يتمثّل في فوضى أسعار الصرف وانهيار الليرة، وآخر مصرفيّ يتمثّل في أزمة القطاع الماليّ ومصرف لبنان، وثالث متعلّق بماليّة الدولة والدين العام. ولهذا تستحيل معالجة جانب واحد من هذا الانهيار من دون التعامل مع الجوانب الأخرى من خلال استراتيجيّة شاملة.

ويسأل الخبراء، على سبيل المثال لا الحصر: كيف يمكن لحكومة تصريف أعمال أن تقنع الدائنين الأجانب أو المحليّين بالدخول في مفاوضات جدّيّة في ما يخص الدين العام، والحكومة لا تملك أدنى مقوّمات المشروعيّة التي تسمح لها بالالتزام بتعهّدات مصيريّة حاسمة تمتدّ لسنوات طويلة؟ وهل من الواقعي ترقّب حلٍّ لأزمة سعر الصرف من دون معالجة أزمة الدين العام، فيما أحد أسباب أزمة الليرة اليوم تكمن تحديداً في طباعة العملة لتمويل إنفاق الدولة وسداد ديونها بالليرة، في ظل عدم وجود أيّ مقرض آخر بسبب حالة التعثّر؟ وكيف يمكن لحكومة تصريف الأعمال أن تقحم نفسها في خطّة لتعويم سعر الصرف أو توحيده، بينما يحتاج هذا النوع من الخطط إلى الالتزام بمسار يمتدّ لسنواتٍ من الإنفاق على شبكاتِ حمايةٍ للّفئات الضعيفة من تداعيات هذه الخطّة؟

تمتدّ لائحة الأسئلة لتشمل عشرات الملفّات المطلوب التعامل معها لمعالجة أوجه الانهيار الثلاثة، لكنّ المؤكّد أنّ أيّ حلول ترقيعيّة لا تشمل الأوجه الثلاثة معاً لن تؤدّي إلّا إلى المزيد من الغرق في أتون الأزمة الحاليّة. أمّا الخطة الشاملة فمستحيلة من دون حكومة تملك جميع مقوّمات الحل، من ناحية صلاحيتها الدستوريّة والغطاء الذي يسمح لها باتخاذ هذا النوع من القرارات الحسّاسة.

أما الإشارة الأبرز، التي أكّدت كل هذه الحقائق، فكانت تصريحَ المتحدّث باسم صندوق النقد الدوليّ جيري رايس، الذي لم يصرّ فقط على تشكيل حكومة جديدة على الفور، بل أعطى إشارة بالغة الأهميّة من خلال تشديده على ضرورة امتلاك الحكومة التي تتعامل مع التحدّيات الماليّة “تفويضاً قويّاً لتطبيق الإصلاحات الضروريّة”، وهو ما بدا ردّاً مبطّناً على التسريبات التي تحدّثت عن عودة المباحثات مع الصندوق من خلال حكومة تصريف الأعمال. مع العلم أن رايس شدد أيضاً على اقتصار المحادثات الحاليّة مع بيروت على المساعدة الفنيّة التي يعطيها الصندوق لوزراة الماليّة وبعض كيانات الدولة الأخرى، ومنها اجتماعات الربيع المتوقّع انطلاقها “عن بُعد” هذا الأسبوع، في استبعاد إضافي لأيّ فكرة يمكن أن تتضمّن تفعيل مفاوضات الصندوق مع الحكومة المستقيلة.

يسأل الخبراء، على سبيل المثال لا الحصر: كيف يمكن لحكومة تصريف أعمال أن تقنع الدائنين الأجانب أو المحليّين بالدخول في مفاوضات جدّيّة في ما يخص الدين العام، والحكومة لا تملك أدنى مقوّمات المشروعيّة التي تسمح لها بالالتزام بتعهّدات مصيريّة حاسمة تمتدّ لسنوات طويلة؟

بالنسبة إلى دياب، ثمّة حسابات إقتصاديّة أخرى تدخل على الخط عند الحديث عن تفعيل حكومته في المرحلة الراهنة. فالرجل يدرك حجمَ كرة النار المؤلمة شعبيّاً ومعيشياً، الراقدة خلف عناوين المعالجات الماليّة المختلفة، من رفع الدعم التدريجيّ عن السلع الحيوية، وصولاً إلى الدخول في عمليّة تعويم سعر صرف الدولار والليرة. ويدرك دياب حساسيّة التعامل مع أزمة القطاع الماليّ وخسائره وما ينطوي عليه هذا الملفّ من مصالح متشعّبة وضخمة، ولا سيّما أنّ معالجته لهذه الملفّات، من دون غطاء سياسيّ سميك، هي مسألة عبثيّة تصل إلى حدود الانتحار المعنوي، وهو غير قادر عمليّاً على التعامل مع أيٍّ من هذه الملفّات حتّى لو أراد. باختصار، لسان حاله اليوم يقول: ليس بالإمكان أكثر ممّا كان على مستوى التعامل مع الأزمة الماليّة وما ينتج عنها من تداعيات.

إقرأ أيضاً: المصارف: خطّة جديدة… لامتصاص دولارات البيوت

لكل هذه الأسباب لا يبدو دياب حتّى اللحظة مهتمّاً بكل مناورات ومحاولات تفعيل حكومة تصريف الأعمال، حتى لو جاءت تحت عناوين التعامل مع الملفّات الماليّة أو الاقتصاديّة الداهمة، مع علمه المسبق بأن الغطاء السنّيّ سيبقى موجوداً طالما أنّه يعمل في إطار تصريف الأعمال بحدودها الدنيا، إضافةً إلى أنّه لا يملك المصلحة في الخوض في مناكفات العهد وحروب الصلاحيّات التي يخوضها مع الرئيس المكلّف، وخصوصاً إذا انطوت هذه المناكفات على أبعاد مذهبيّة تفقده غطاء طائفته الذي يحرص عليه حاليّاً.

لذلك حيّد دياب نفسه عن مغامرة تفعيل الحكومة، فرمى الكرة إلى المجلس النيابي، طالباً تفسيراً قانونياً منه لمفهوم تصريف الأعمال، على الرغم من علمه أن رمي الكرة في ملعب المجلس سيؤدّي عملياً إلى الإجهاز على حلم تفعيل حكومة الأعمال. وهذا تحديداً ما جرى من خلال ردّ رئيس المجلس الذي كان واضحاً: “هذا حكي تركي”، مضيفاً: “الدستور واضح في ما خصّ تصريف الأعمال في النطاق الضيّق ولا يحتاج إلى تفسير، وهو تسيير الأمور الضرورية التي تفيد الشعب أو تدفع الضرر، إلا إذا كان المطلوب تغيير الدستور، وهذا الأمر غير وارد على جدولنا”.

 

مواضيع ذات صلة

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…

استراتيجية متماسكة لضمان الاستقرار النّقديّ (2/2)

مع انتقالنا إلى بناء إطار موحّد لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، سنستعرض الإصلاحات الهيكلية التي تتطلّبها البيئة التنظيمية المجزّأة في لبنان. إنّ توحيد الجهود وتحسين…

الإصلاحات الماليّة الضروريّة للخروج من الخراب (1/2)

مع إقتراب لبنان من وقف إطلاق النار، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء إطار متين وفعّال للامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. تواجه البلاد لحظة محورية،…

لبنان “البريكس” ليس حلاً.. (2/2)

على الرغم من الفوائد المحتملة للشراكة مع بريكس، تواجه هذه المسارات عدداً من التحدّيات التي تستوجب دراسة معمّقة. من التحديات المالية إلى القيود السياسية، يجد…