يقدّم النّجم الثّمانينيّ “أنتوني هوبكنز” في فيلم “الأب” للمخرج “فلوريان زيلز” دوراً مؤثّراً ومختلفاً.
الفيلم من إنتاج شركة “سوني بيكتشرز” وكتابة “كريستوفر هاملتون”، وتلعب فيه النجمة “أوليفيا كولمان” دور البطولة الثّانية، ويحتل موقعاً متقدّماً في ترشيحات الأوسكار لعام 2021.
يقارب الفيلم موضوع فقدان الذّاكرة بطريقة لا تحاول ملاحقة أثر تبدّدها على الشّخص ومحيطه، وتصويرها نوعاً من خسارة مؤلمة وقاسية، بل يراها فرصة لإعادة تأليف الحياة، وعيشها بطريقة مكثّفة وخاصّة وخالية من الأقنعة.
هوبكنز كان قد وصف دوره في هذا الفيلم ،على عكس ما كان متوقّعاً، بـ”السّهل”، لكنّه كان في هذا التّصريح يحاول الدفاع عن رؤيته التّمثيليّة الخاصّة الّتي تعتبر أنّ الإبداع الحقيقيّ يكون بالتّخفّف من كل ما يفصل الممثّل عن دوره، حتّى إذا كان هذا الثّقل ليس سوى التّقنيّة والبراعة والمهارة.
يعمد هوبكنز إلى تقديم الشّخصيّات بأسلوب يتبنّى التّبسيط الكامل، لأنّه يسمح بتقديم الشّخصيّة كما هي، وليس نسخة تمثيليّة عنها، في ما يمكن أن نسمّيه “فيلم الممثّل”، الذي يُبنى على حضور الممثّل. ومن خلالها دخل هوبكنز سباق الأوسكار مدعوماً بترحيب نقديّ وجماهيريّ واسع. فموقع “الطماطم الفاسدة” الشهير منح الفيلم “علامة كاملة”.
يقارب الفيلم موضوع فقدان الذّاكرة بطريقة لا تحاول ملاحقة أثر تبدّدها على الشّخص ومحيطه، وتصويرها نوعاً من خسارة مؤلمة وقاسية، بل يراها فرصة لإعادة تأليف الحياة، وعيشها بطريقة مكثّفة وخاصّة وخالية من الأقنعة
ليس فقدان الذّاكرة في فيلم الأب لحظة تلاشٍ ونهاية، بل نجد هوبكنز الّذي يحضر في الفيلم باسمه الفعليّ “أنتوني”، يؤلّف أحلامه ويحياها لأنّ النّسيان يجعل كلّ شيء جديداً على الدوام. وفي هذا العالم تضيع الحدود بين الأحلام والوقائع وبين ترسّبات الذّاكرة الّتي تومض غائمةً، والخيالات والرّغبات والأوهام.
الأب يحيا دوماً في حالة ذروة انفعاليّة لا يمكن لأحد أن يلجمها ولا أن يخفّف من وطأتها ولا أن يتعامل معها. لا يحيا في زمن الآخرين ولا في زمن العالم، لذلك لا يظهر كل شيء حوله غريباً وغير قابل للفهم وحسب، ولكنه يبدو له مزيّفاً ومزوّراً وغارقاً في الاصطناع.
في نوبات مرحه المغالية وحزنه الشديد يعيش أحلامه ويتعامل معها بوصفها ذاكرته وقد صعدت إلى مرتبة السّيرة المؤكّدة. يختار أن يكون راقصاً فيكون كذلك، ويمكنه أن يحيا هذه اللّحظة بكل كثافتها ولا يهمّ إذا لم يكن كذلك فعلاً. لا تهمّه حقيقة كونه مهندساً، التي تلقي بها ابنته في وجهه، ولا تستطيع كسر سيرورة العيش في الأحلام.
توحي لعبة السّاعة، الّتي تضيع تكراراً، بضياع الزمن. استطاع سيناريو الكاتب المبدع كريستوفر هاملتون أن يواكب هذه الفكرة مواكبةً تتّسم بدرجة عالية من العمق.
فقدان الذّاكرة يتيح لقاءً مغايراً بالزمن، حيث يواجه المرء ذاته العارية من كلّ الالتزامات ومن كلّ الإكراهات، لكنّها في الآن نفسه تكون عامرة بكلّ ما اختزنه من تجارب.
دور الابنة، الّذي تقدّمه الممثّلة أوليفيا كولمان، أساسيّ، لأنّها في كل لحظة تجد نفسها أمام خطر تبدّد حياتها وضياعها، بسبب حالة والدها وما تتطلّبه من عناية خاصة.
تصبر فترة طويلة لكنّها تختار في النهاية متابعة حياتها من دون أن يكون هذا القرار بمنزلة التّخلّي عن الأب.
ليس فقدان الذّاكرة في فيلم الأب لحظة تلاشٍ ونهاية، بل نجد هوبكنز الّذي يحضر في الفيلم باسمه الفعليّ “أنتوني”، يؤلّف أحلامه ويحياها لأنّ النّسيان يجعل كلّ شيء جديداً على الدوام
يحرص الفيلم على عرض هذا الخيار بوصفه طريقة خاصّة من الحب. الأب يمثّل ذاكرة ابنته، وهي لا تريده أن يتحوّل إلى جريمة لا تغتفر بحقّ نفسها، لذا تصرّ على الإمساك بحياتها من أجل الدّفاع عن ذاكرة يحيا فيها الأب محتفظاً بكل صفاته، رافضة سجنه في ذاكرة تختصره في حالة مرضيّة.
يدافع الفيلم عن فقدان الذاكرة وكأنّه ليس مرضاً بقدر كونه إمكانيّة وفرصة.
إقرأ أيضاً: “النمر الأبيض” تحفة نتفلكس 2021: السياسة والدم.. للصعود الطبقي
وفي المشهد المرشّح بقوّة للتحوّل إلى أحد المشاهد الّتي تطبع ذاكرة السّينما يستحضر الرجل العجوز أمّه ويشرع في البكاء قائلا: “أريد أمّي، أريد العودة إلى المنزل”. لنعيش لحظة انفجار الزمن وتشظّيه والعودة إلى البدايات أمام لحظة النهايات التي تتكثّف فيها رغبة وحيدة، وهي الأمان المحروس بالحنان الأموميّ.
بعدئذ يعلن في أحد جمل السيناريو الباهرة: “أشعر أنّني فقدت كلّ أوراقي بسبب المطر والرياح”. ثمّ تنتقل الكاميرا لترينا مشهد الفيلم الختامي، وهو عبارة عن شجرة خضراء مورقة تلعب بها النّسائم برفق، وكأنّها إشارة تقول إنّ العواصف التي أصابت حياة أنتوني، عرّت أوراق أشجار ذاكرته وحياته، ولكنّها لم تمُت، بل انتقلت لتسكن في أشجار جديدة.