روسيا: من هو دوغين؟ وكيف سيعيد الإمبراطورية؟

مدة القراءة 9 د

“هل بوتين قاتل؟”، سأل المذيع في قناة ABC. تمتم بايدن للحظة، ثم قال: “نعم”. بوتين ردّ متهكّماً: “صحتك جيدة؟”. ربما إيحاءً إلى ما تملكه الاستخبارات الروسية من معلومات عن الوضع الصحي لرئيس الولايات المتحدة (عمره 78 عاماً)، في محاولة لتضليل للرأي العام الأميركي، أو التأثير في صورة بايدن شعبياً. ثم تَبِعَ بوتين، رفيقُ دربه، المتناوب معه على منصبي رئاسة الوزراء ورئاسة الجمهورية على التوالي، بين عامي 2008 و2012، ديمتري مدفيديف، مستشهداً بمقولة لعالم النفس النمساوي سيغموند فرويد (توفي عام 1939): “ليس في الحياة ما هو أكثر كلفة من المرض والغباء”.

هو هجوم غير مسبوق على بايدن العجوز.

في المقابلة نفسها، استذكر بايدن ما قاله لبوتين في لقاء سابق معه: إنّه “رجل بلا روح” “a man without soul”. فما الذي تعنيه العبارة؟

ألكسندر دوغين، فقد اختطّ منذ مطلع التسعينيات منهجاً جديداً لتبرير استعادة المجال السوفياتي السابق بتبريرات أيديولوجية مختلفة كلّياً عن الشيوعية الملحدة، وهي مزيج من القومية الروسية والعقيدة المسيحية الأرثوذكسية

بحسب غاري هارت Gary Hart، وهو سيناتور ديمقراطي حتّى عام 1987، وأكاديمي بارز، ومرشح رئاسي سابق عام 1988، فإن “شخصاً بدون روح، هو من يفتقد القدرة على التعاطف مع الناس. قاسٍ. لا يملك القدرة على مشاركة المحتاجين في معاناتهم. وقد يبدو أنه يفعل ذلك، إن لم يكن أمامه سبيل آخر لاسترضاء أتباعه حتى يُقال إنّه إنسان بالفعل. ولكن بشكل عام، هو حقاً لا يهتمّ بغيره”.

عقب ذلك، استدعت موسكو سفيرها في واشنطن للتشاور وتقييم العلاقات الثنائية، وهو أمر لم يحدث منذ أكثر من 20 سنة. فهل هي سحابة عابرة مع فقدان الكيمياء بين الرجلين، وهما اللذان يعرف أحدهما الآخر جيداً، عندما كان بايدن نائباً للرئيس باراك أوباما بين عامي 2008 و2016، أم بسبب قرب بوتين من ترامب؟

بشكل عام، أطلقت إدارة بايدن دبلوماسية هجومية منذ اليوم الأول، ليس ضدّ روسيا فحسب، بل ضدّ كلّ الدول التي أفادت من رحابة صدر الرئيس السابق دونالد ترامب، وهي إما دعمت ترامب في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، أو تمنّت فوزه. في هذا المجال، ملف بوتين ثقيل للغاية. والاستخبارات الأميركية تتهم موسكو بسلسلة من الهجمات الإلكترونية التي عُرفت باسم، وهو “Solar Winds” اسم الشركة الأميركية الرائدة في الأمن السيبراني التي تعرضت للاختراق. وكذلك وكالات حكومية فدرالية في حمأة الصراع على نتائج الانتخابات بين بايدن وترامب منتصف كانون الأول الماضي. ورُفعت السرّية في 15 آذار الحالي، عن تقرير استخباراتي أميركي يكشف أدوار روسيا وإيران في الانتخابات الرئاسية، تأييداً لترامب من جانب موسكو، وتقويضاً لحملة ترامب من جانب طهران دون تأييد منافسه. والهدف المشترك لهما زعزعة الثقة بالانتخابات وبالنظام الديمقراطي في الولايات المتحدة. وبوتين تحديداً، تدخل في الانتخابات مرتين دعماً لترامب، 2016 و2020، علماً أنّ المرة الأولى كانت أكثر فجاجة وخطورة.

وعلى هذا، فإن الحديث عن استعادة مناخ التوتر بين موسكو وواشنطن، بات قديماً بعض الشيء. نحن الآن في مرحلة متقدّمة من جهود روسيا وحلفائها الإقليميين، لإزاحة الولايات المتحدة عن موقعها الاستراتيجي في العالم، من أجل ترسيخ تعدّدية قطبية، ورسم دور متصاعد لروسيا في السياسات الإقليمية، على الأقل، ولبقية الحلفاء استطراداً. وهو ما يمارسه بوتين فعلاً، منذ وصوله إلى سدة الرئاسة عام 2000، وكأنه تحقيق لرؤية عالم روسي جيوبوليتيكي، قومي يميني، يجمع بين النظرية الجيوسياسية المتعالية والعمل السياسي الميداني المباشر. وله حضور في كلّ النزاعات التي لروسيا فيها نصيب منذ عقدين من الزمان، من جورجيا وأوكرانيا، وصولاً إلى الأزمة التركية الروسية عام 2015، أقصد ألكسندر دوغين.

قبل أقل من شهر من انطلاق ثورة 17 تشرين الأول في لبنان، وتجدّد الثورة الشعبية في العراق في الشهر عينه ضدّ الأحزاب الموالية لإيران. انعقد في بيروت في 23 أيلول 2019، مؤتمر “الوصول إلى الحقيقة والسلام، تحدّيات وفرص”، بتنظيم من منظمة الأفق الجديد الإيرانية “أفق نو” بحضور ألكسندر دوغين نفسه

وهنا يُطرح سؤال الساعة بعد ما قيل عن استدعاء موسكو لوفد من حزب الله مؤخراً لمناقشة تشكيل الحكومة في لبنان، وأمور أخرى، لا سيما الانتخابات الرئاسية في سوريا بعد أشهر قليلة، وموقع بشار الأسد. فهل صحيح أنّ بوتين يريد إرضاء بايدن ونتنياهو وإخراج إيران والحزب من سوريا، وتنفيذ القرارات الدولية فيما يتعلّق بالمرحلة الانتقالية والحلّ السلمي، بما يمسح مرحلة الأسد سلمياً؟ قد يكون الجواب أكثر عند دوغين، وليس عند بوتين.   

ليس دوغين في موقع صنع القرار في موسكو، لكنه يصعب التفريق بين اسمين في روسيا الصاعدة من ركام الاتحاد السوفياتي السابق: بين فلاديمير بوتين، رجل الأجهزة الأمنية، وألكسندر دوغين صاحب النظريات الجيوبوليتيكية.

 

قيصر في جمهورية

الأول شقّ طريقه بثبات، أواخر التسعينيات من قلب إدارة الرئيس السابق بوريس بلتسين، بطل تفكيك الاتحاد السوفياتي، مع تساقط منافسيه في الطريق إلى الكرملين، بطريقة لا تقل غموضاً عن تساقط معارضيه وهو في السلطة منذ ترؤسه الحكومة عام 1999. انتقل بوتين من سلك الاستخبارات “الكي جي بي KGB”، إلى الإدارة، مستشاراً للشؤون الخارجية لصالح أستاذه ألكسندر سوبتشاك، محافظ بيترسيبورغ. وسوبتشاك كان شخصية سياسية صاعدة مع انهيار الاتحاد السوفياتي، ومرشحاً رئاسياً قوياً إلى أن هرب إلى باريس عام 1997، بسبب ملاحقات قضائية. وهو أستاذ ديمتري ميدفيديف أيضاً، الذي سيربط مصيره السياسي ببوتين، كرجل موثوق به.

قد يكون بوتين متقلّباً تكتيكياً كما يراه دوغين، لكنه ثابت على طريق السلطة، وفي سبيل عظمة روسيا وهو على رأسها، والبقية مجرّد تفاصيل. من موت أستاذه سوبتشاك الغامض عندما عاد إلى روسيا من منفاه الاختياري بطلب من تلميذه بوتين عام 2000 كي يشارك في حملته الرئاسية، بحيث تشبه حادثة التسمم التي تعرّض لها ومرافقاه، ما أصاب شخصيات أخرى، منها أخيراً أليكسي نافالني المعارض الشرس الذي نُقل إلى ألمانيا عام 2020 للعلاج بموافقة بوتين. وفي كلا الحالتين، كما الحالات الأخرى، التي نالت من معارضين أو منافسين، من غير الممكن إثبات أيّ علاقة بسيّد الكرملين. 

اشتُهر دوغين في روسيا والعالم، بعد نشر كتابه المثير للاهتمام: “أسس الجيوبوليتيكا، مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي” عام 1999، وتُرجم إلى لغات عدة، ومنها اللغة العربية عام 2004، وصدر في بيروت عن دار الكتاب الجديد

 

محور موسكو – طهران

أما الثاني، ألكسندر دوغين، فقد اختطّ منذ مطلع التسعينيات منهجاً جديداً لتبرير استعادة المجال السوفياتي السابق بمقولات أيديولوجية مختلفة كلّياً عن الشيوعية الملحدة، وهي مزيج من القومية الروسية والعقيدة المسيحية الأرثوذكسية. وهو من أبرز منظّري التحالف بين روسيا الأوراسية وبين إيران الأصولية.

فقبل أقل من شهر من انطلاق ثورة 17 تشرين الأول في لبنان، وتجدّد الثورة الشعبية في العراق في الشهر عينه ضدّ الأحزاب الموالية لإيران، وقبل أشهر قليلة من اغتيال الجنرال قاسم سليماني قرب مطار بغداد… وبعد تفوّق إيران وحلفائها في الصراع السوري وقضم مزيد من البلدات والقرى في ريفي حماة وإدلب، وتزايد التهديد الصاروخي للمملكة العربية السعودية انطلاقاً من اليمن، في حرب استنزاف للتحالف العربي داخل اليمن وخارجه، وبعد أشهر من إسقاط الطائرة الأميركية دون طيار قرب مضيق هرمز دونما ردّ، انعقد في بيروت في 23 أيلول 2019، مؤتمر “الوصول إلى الحقيقة والسلام، تحدّيات وفرص”، بتنظيم من منظمة الأفق الجديد الإيرانية “أفق نو” بحضور ألكسندر دوغين نفسه.

اللافت في هذا المؤتمر إعلان النصر الذي أطلقه رئيس المنظمة نادر طالب زادة، وهو باحث ومخرج سينمائي. قال زادة: “نحن ننتصر في كلّ أنحاء العالم. والكثيرون مندهشون من العمليات الشجاعة التي يقوم بها حزب الله من دون أن يجرؤ العدو على الردّ عليها.” أما دوغين، فاعتبر أنّ “تقرير مصير العالم كله يجري في الشرق الأوسط، لأنه النقطة التي تجتمع فيها جميع التيارات، وهو مركز العالم الروحي”. وأضاف: “كلّ ما يحصل فيه مرتبط بالأماكن المقدّسة في المنطقة، من النجف إلى قم، فطهران، فمشهد، فبيروت، وبعد ذلك في بغداد. هذه هي الحرب المقدّسة التي يتهموننا خلالها أنّنا إرهابيون. هم الإرهابيون”.

اشتُهر دوغين في روسيا والعالم، بعد نشر كتابه المثير للاهتمام: “أسس الجيوبوليتيكا، مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي” عام 1999، وتُرجم إلى لغات عدة، ومنها اللغة العربية عام 2004، وصدر في بيروت عن دار الكتاب الجديد. وهذا الكتاب الذي أضحى مادة دراسية في هيئة الأركان، شارك في إعداده ضباط كبار، ويعدّ الأيديولوجيا البديلة من الشيوعية البائدة، أي الأوراسيا الجديدة، وتعني المناطق الممتدة بين آسيا وأوروبا، وتشخّص روسيا الحالية.

يقول دوغين إن روسيا لا يمكن أن تكون مجرّد “الدولة – الأمة” كسائر الدول الأوروبية الحديثة، أي دولة قومية روسية بحدود واضحة. وذلك لأنه بحسب ادّعاء دوغين، تنزل الكوارث بروسيا كلما حاولت الانحشار في حدود ضيقة، ولأن الروسي هو إمبراطوري في طبعه، ويضحّي بأيّ شيء من أجل الحلم الروسي. وهذا الحلم هو الإمبراطورية في أقل تقدير. وعن علاقة العالم الإسلامي بهذه الإمبراطورية الروسية المطلوب إنشاؤها، يقول دوغين إنّ الإمبراطورية الأوراسية تحتاج إلى قطب جنوبي، يمتدّ على حدودها وصولاً إلى أفريقيا الغربية فيما يسمى “الخلافة الجديدة”. لكن بما أنّ العالم الإسلامي مشتّت، فالخيار هو التحالف مع إيران الأصولية ومعها الدول العروبية، لا سيما سوريا، لأنّها معادية للأطلسية الغربية، بدلاً من تركيا العلمانية والسعودية. اللافت دور دوغين في السنوات الأخيرة في ترميم العلاقات الروسية التركية بعد أزمة 2015، وفي إبلاغ تركيا بالمحاولة الانقلابية عام 2016. هنا حصل خرق استراتيجي حقّقته براغماتية بوتين وأيديولوجية دوغين، في الحزام الجنوبي الذي كان يطوّق الاتحاد السوفياتي السابق أيام الحرب الباردة.

إقرأ أيضاً: التدويل: روسيا لا تريد والمجتمع الدولي يفعل ما يريد

أما الجواب عن انقلاب روسي محتمل على إيران في سوريا، فهو يكمن في الهامش السياسي المتاح بين بوتين ودوغين. فمهما ناور بوتين تكتيكياً، للحصول على مكاسب آنية، يبقى ملتزماً قواعد دوغين، التي هي قواعد “الدولة العميقة” في روسيا.

مواضيع ذات صلة

رفيق الحريري: هل تتحقّق العدالة بتصفية الأداة؟

“المخيف في الأعمال الشرّيرة هو أنّها تُرتكب على أيدي بشر عاديّين” حنة أرندت   ليس المقصود بتفاهة الشرّ بأنّ فعل الشرّ بحدّ ذاته مسألة تافهة….

لبنان والسّيادة… ووقاحة “الشّعب والجيش والمقاومة”

جاء المبعوث الأميركي آموس هوكستين أخيراً. لا يزال يعمل من أجل وقف للنّار في لبنان. ليس ما يشير إلى أنّ طرفَي الحرب، أي إيران وإسرائيل،…

أرانب نتنياهو المتعدّدة لنسف التّسوية

إسرائيل تنتظر وصول المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، بعدما بات ليلته في بيروت لتذليل بعض العقد من طريق الاتّفاق مع لبنان والحزب، على وقع الانقسام…

كيف ستواجه تركيا “فريق ترامب الصّليبيّ”؟

عانت العلاقات التركية الأميركية خلال ولاية دونالد ترامب الأولى تحدّيات كبيرة، لكنّها تميّزت بحالة من البراغماتية والعملانيّة في التعامل مع الكثير من القضايا. هذا إلى…