الأسد – أوباما: هكذا ربح المفاوضات بالأسلحة الكيمياوية وقتل الآلاف

مدة القراءة 6 د

غرايم وود (واشنطن بوست)

 

رائحة غاز السارين هي تجسيد لرائحة العدم والموت. يبدأ هذا الغاز سريانه في الأنف بلا حسيب أو رقيب.  مجرّد نفحة منه، من شأنها أن تصيب كل وظائف الجسم. خبير الحرب الكيميائية، تيم بليدز، الذي تنشّق عن طريق الخطأ غاز السارين أثناء عمله لدى الحكومة الأميركية، يشبّه الشعور بـ”شيء كبير وفاسد عالق داخل البطن”. نجا بليدز من المضاعفات، فقط لأنّه تلقّى رعاية طبية متخصّصة. ولو أصيب في منطقة حرب، بعيدًا عن المستشفيات الحديثة، لكان انتهى به الأمر كمئات السوريين الذين ماتوا في غضون ساعات.

في كتابه الجديد بعنوان “الخطّ الأحمر وتفكّك سوريا وسباق أميركا لتدمير أخطر ترسانة في العالم”، يروي جوبي واريك، الصحافي في “واشنطن بوست”، قصّة برنامج الرئيس بشار الأسد للأسلحة الكيميائية، من مرحلة الجمود عندما كان محصورًا في أحواض داخل منشآت متناثرة في جميع أنحاء سوريا، إلى استخدام هذا السلاح ضدّ المدنيين، وصولًا إلى تفكيكه.

لقد تعهد الأسد بتسليم غاز السارين، بضغط من حليفته روسيا، وسمح للولايات المتحدة بتحييد عشرات الآلاف من الغالونات الكافية لقتل كل سوري مرّات عديدة. لكنّه احتفظ بمخبأ سرّي لحفظ هذا السلاح.

غالبًا ما يتم الإفراط في بيع القصص عن الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، في تكرار لحكايات القتلة المتسلسلين من آكِلي لحوم البشر: أشكال غريبة من القتل هي التي تثير غضبنا، ما لا تفعله أشكال القتل قديمة الطراز، كالبراميل المتفجرة التي قُتل بها معظم ضحايا الأسد. أما الأسلحة الكيميائية، فهي وسيلة ملتوية للغاية وغير عملية لارتكاب جرائم قتل جماعي. هبّة مفاجئة من الرياح يمكن أن تجنّبك ضرر هذه الأسلحة، أو توجّهها نحوك.

لقد تعهد الأسد بتسليم غاز السارين، بضغط من حليفته روسيا، وسمح للولايات المتحدة بتحييد عشرات الآلاف من الغالونات الكافية لقتل كل سوري مرّات عديدة. لكنّه احتفظ بمخبأ سرّي لحفظ هذا السلاح

خلال الحرب العالمية الأولى، استخدم حوالي طنّ من غاز الخردل لقتل جندي عدو واحد. ثم استهدف العراق 27 ألف جندي إيراني بالغاز في الحرب الإيرانية – العراقية، لكنه قتل 262 منهم فقط. على النقيض من ذلك، فإنّ رصاصة في الدماغ تقتل في كل مرّة تقريبًا، وهذا ما اعتمِد في الحرب الأهلية السورية لقتل نصف مليون شخص تقريبًا، مقابل قتل بضعة آلاف منهم فقط بالسلاح الكيميائي.

في آب 2013، قُتل أكثر من 1000 شخص في هجوم واحد بغاز السارين في الغوطة الشرقية، بالقرب من دمشق، وتوفي 100 تقريبًا في هجوم آخر بغاز السارين في خان شيخون في نيسان 2017. وتوفي عدد غير محدد من جرّاء هجمات باستخدام غاز الكلور. وبحسب كل المصادر المعروفة، فإنّ القوات المسلحة السورية الموالية للأسد هي التي ارتكبت هذه الهجمات.

في كتابه المذكور، يحافظ واريك على حسّ التناسب. يخصص أجزاء قصيرة لجهود “الدولة الإسلامية” (داعش) لتطوير أسلحة كيميائية. لكنّ “الدولة الإسلامية” ليست بحاجة إلى هذه الأسلحة لتكون مخيفة. يمكن لمقاتليها دهس الناس بالشاحنات. لم يكن برنامج الأسلحة الكيميائية للمجموعة أكثر من مجرد برنامج بدائي، ويمكن القول إنّه أهدر مواردها.

صبّ واريك تركيزه في المكان الأجدر: بشار الأسد، الذي اتخذ من الأسلحة الكيميائية برنامجًا إرهابيًّا متطورًا للغاية، واستراتيجيًّا. كتب واريك: “يموت السوريون كل يوم من الرصاص، وجروح الانفجارات، وإصابات الشظايا، لكن أيضًا من الإبادة بالمواد الكيميائية، كما لو كانوا براغيث وصراصير”. فقد اعتبر هذا الفعل “تصنيفًا مختلفًا من الوحشية”. وبالنظر لعدم وجود أيّ غرض عسكري مشروع، كانت أسلحة الأسد الكيميائية موجودة لإرهاب السكان المدنيين من خلال القتل العشوائي. لذلك شكّل التخلص من ترسانته أولوية دولية قصوى.

بدت الجهود المبذولة لتحقيق هذا الهدف في بعض الأحيان عبقرية، بل وحتى بطولية. بطل الرواية غير المتوقع في الجزء الأول هو آكي سيلستروم، الباحث السويدي في مجال الأسلحة الكيميائية الذي قاد تحقيقًا دوليًّا في مذبحة الغوطة الشرقية وأثبت مسؤولية الحكومة السورية. الناجون من السوريين على الطرف المتلقي من الهجمات الكيميائية، مثل الطبيب الشاب حسام النحاس، كانوا يتصرفون بشجاعة أثناء مطاردتهم من قبل الحكومة، فيتبادلون النصائح حول كيفية التعامل مع الضحايا والحفاظ على الأدلة التي توثق أسباب وفاتهم.

البطل الآخر هو بليدز، الأميركي الذي نجا من التعرض لغاز السارين.

في آب 2013، قُتل أكثر من 1000 شخص في هجوم واحد بغاز السارين في الغوطة الشرقية، بالقرب من دمشق، وتوفي 100 تقريبًا في هجوم آخر بغاز السارين في خان شيخون في نيسان 2017

يُعرف سارين الأسد بـ”السلاح الكيميائي الثنائي”، الذي ينقسم إلى مادتين كيميائيّتين مستقرّتين تتحولان إلى غاز السارين عند مزجهما.

كُلّف بليدز بتدمير هذه المواد الكيميائية بعد أن سلّمها الأسد. اخترع أداة محمولة، تُعرف باسم “آلة مارغريتا”، التي تحول سلائف السارين المتقلبة إلى “سائل بلون الكولايد الأزرق المائي”، وهي تحمل ضررًا كمنتجات التنظيف المنزلية. لأسابيع، قام فريق بليدز بتشغيل هذه الآلات على متن سفينة في البحر المتوسط، وفككوا غاز السارين السوري الذي يكفي لقتل عشرات الملايين من الناس أو الأسماك. لا يُعتبر التخلص من النفايات السامة أكثر الموضوعات الواعدة في روايات الإثارة الواقعية، لكنّ واريك يقدمها في كتابه بأسلوب جادّ ومقنع.

إقرأ أيضاً: إيران ترضخ “نووياً”.. إذا أعلن بايدن رفع العقوبات بعد عام

هذه الجهود البطولية بالكاد حققت نتائج. يلوم واريك الروس في ضمان بقاء الأسد. وهو لوم محقّ، لأنّ الروس زعموا أنّهم يريدون سوريا خالية من الأسلحة الكيميائية، لكنهم أبطأوا كلّ جهود التنفيذ وتدخّلوا لدعم الأسد عسكريًّا، حتّى مع استمراره في تسليط الغاز الكيميائي على المدنيين. كما يبتعد واريك عن ذكر ما توحي به أدلته بوضوح: لقد نجح حقًّا برنامج الأسد للأسلحة الكيميائية، ليس عن طريق قتل الناس ولكن من خلال منح الأسد ورقة مساومة وإعطاء الروس قضية أخرى لحرق الوقت والطاقة في التفاوض. تعليق الرئيس باراك أوباما الشهير حول أسلحة الأسد الكيميائية – بأنّ استخدامها سيعني تجاوز “الخطّ الأحمر” وإطلاق ردّ أميركي – تبيّن أنّه مناقض للحقيقة. استخدام الأسلحة الكيميائية لم ينهِ قدرة الأسد على التفاوض، بل عزّز موقفه.

لقراءة النص الأصلي اضغط هنا 

 

مواضيع ذات صلة

الاتّفاق Done: إعلانه خلال أيّام.. أو أسابيع؟

بين واشنطن وتل أبيب وبيروت أصبحت شروط الاتّفاق معروفة، ولا ينقصها سوى لمسات أخيرة قد تستلزم يوماً واحداً، وقد تطول لأسابيع، أربعة ربّما. لكن ما…

“اليوم التّالي” مطعّم بنكهة سعوديّة؟

لم يعد خافياً ارتفاع منسوب اهتمام المملكة العربية السعودية بالملفّ اللبناني. باتت المؤشّرات كثيرة، وتشي بأنّ مرحلة جديدة ستطبع العلاقات الثنائية بين البلدين. الأرجح أنّ…

مخالفات على خطّ اليرزة-السّراي

ضمن سياق الظروف الاستثنائية التي تملي على المسؤولين تجاوز بعض الشكليّات القانونية تأخذ رئاسة الحكومة على وزير الدفاع موريس سليم ارتكابه مخالفة جرى التطنيش حكوميّاً…

“الفرصة الأخيرة” وسط الألغام

قبل ساعات من وصول الموفد الأميركي آموس هوكستين تقصّد العدوّ الإسرائيلي كما الحزب رفع مستوى الضغط الميداني إلى حدّه الأقصى: إسرائيل تكرّر قصف عمق العاصمة…