زيارة البابا إلى السيستاني: هل تتجاوز حدود العراق؟

مدة القراءة 8 د

كثيرون تحدّثوا في الأيام الأخيرة عن أهمية الزيارة التي يقوم بها رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم البابا فرنسيس إلى العراق، في هذه اللحظة التاريخية من تاريخ المنطقة والعراق.

وكثيرون توقفوا عند رمزية اللقاء التاريخي الذي جمع هذا الزائر الكبير مع آية الله السيد علي السيستاني، رأس الحوزة الدينية الشيعية ومرجعيتها العليا، وما يمكن أن يمثّله من استكمال لما سبق أن بدأ تبلورُه في زيارة سيّد الكرسي الرسولي العاصمة الإماراتية أبو ظبي، والخطوة التاريخية التي قام بها مع شيخ الأزهر الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب، بالتوقيع على ميثاق الأخوّة، وهذه المرة مع السيد السيستاني في النجف الأشرف، لتكريس هذه المدينة عاصمةً عالمية للجناح الثاني الذي ينهض بالجسد الاسلامي، إلى جانب الأزهر الشريف، كدين يؤكد الشراكة الإنسانية بين قطبي الإنسانية الروحيّيْن – الإسلام والمسيحية – ويعزّز دور هذه المرجعيات بما تمثّله من اعتدال ووسطية، تسعى لتغليب صوت العيش المشترك والشراكة والصداقة، التي تتجاوز الحدود الإنسانية أو الدينيّة، لتشمل العالم أو الكون بكل ما فيه من تنوّع وتعدّد غير متصارع أو عدائي.

أن تحتلّ زيارة النجف الأشرف الموقع الأبرز والأهم في زيارة الحبر الأعظم العراق، وفي هذه المرحلة التاريخية، فهذا ما قد يثير حساسيات أخرى، لجهة ما يكمن أن تؤدي إليه من تثبيت هذه المرجعية على المستوى العالمي، على حساب الدور الذي تطمح إليه مرجعيات أخرى من عالمية الدور التمثيلي لشيعة العالم

وإذا ما كان الميثاق الموقّع بين الحبر الأعظم والشيخ الأعظم في أبو ظبي، قد كرّس الأزهر كمرجعيّة للاعتدال الإسلامي السنيّ، وأكد على الدور الذي تقوم به هذه المرجعية في مواجهة الفكر المتطرّف، وتُخرج الجماعات التي تحمل العقائد التكفيرية من دائرة الأديان السماوية، على قاعدة أن “لا دين أو مذهب للإرهاب”، ولا أيّ علاقة للأديان السماوية الإبراهيمية بما تمارسه بعض الجماعات التي تدّعي تمثيلها… فإنّ ما يمكن أن ترسّخه زيارة النجف الأشرف، واللقاء مع مرجعيتها، هو أن تجعل منها العنوان الشيعي الأوّل والمحوري والأساس في هذا السياق، وتؤكد تقدّمه وريادته على العناوين الفرعية التي نشأت لاحقًا في حِقب تاريخية مختلفة، نتيجة حاجات زمنية وظروف موضوعية لا تؤسّس لواقع يقدّم الفرع على المركز.

أن تحتلّ زيارة النجف الأشرف الموقع الأبرز والأهم في زيارة الحبر الأعظم العراق، وفي هذه المرحلة التاريخية، فهذا ما قد يثير حساسيات أخرى، لجهة ما يكمن أن تؤدي إليه من تثبيت هذه المرجعية على المستوى العالمي، على حساب الدور الذي تطمح إليه مرجعيات أخرى من عالمية الدور التمثيلي لشيعة العالم. لذلك فإنّ تعاطي هذه المرجعيات مع هذه الزيارة حاول التأكيد على حصريّة التمثيل العراقي لمرجعية السيد السيستاني، أي محاولة تخصيصها وتحديدها، لتشكل نوعًا من رسالة ذات بعد سياسي واضح، يريد القول إنّ مخرجات هذه الزيارة وهذا اللقاء، بما فيه إمكان التوقيع على ميثاق أخوّة أو صداقة أو تضامن، سيكون ملزمًا للجغرافيا العراقية فقط.

وقد عبّرت هذه المرجعيات، غير العراقية، عن محاولة حصر آثار هذه الزيارة في الجغرافيا العراقية، بالتعامل مع الموقع الديني للسيد السيستاني باعتباره حصرًا مرجع “الشيعة العراقيين”، والإعلان بطريقة أو بأخرى أنّ المرجعية العالمية لهذا المكوّن الإسلامي، وعلى غرار الأزهر الشريف، تقع في مكان آخر ولا بد أن تؤخذ بعين الاعتبار، إذا كانت الأهداف التي يسعى لها الفاتيكان لا تحمل أبعادًا أو أدوارًا سياسية تسعى لفرض عزلة عليها. وذلك بهدف فرملة التأثير على المرجعية غير العراقية، الدينية والسياسية، لصالح مرجعية النجف زمنيًّا وجغرافيًّا ومذهبيًّا.

وفي هذا الإطار قد لا تبدو التغريدة التي أطلقها مستشار رئيس البرلمان الإيراني حسين أمير عبد اللهيان حول الزيارة، على مواقع التواصل الاجتماعي والتي ذكر فيها أنّi “لولا دور وتضحيات أبو مهدي المهندس واللواء (قاسم) سليماني، وشهداء محاربة الإرهاب وداعش في العراق والمنطقة، لما كان البابا ليتمكّن من دخول العراق اليوم بأمانٍ وسلام. يبقى أنّ تدخّل البيت الأبيض ووجود أميركا العسكري في العراق والمنطقة، مصدر لانعدام الأمن”.

لا تبدو تغريدة من خارج السياق الذي يعبّر عن الحساسية الإيرانية من هذا الزيارة. لأنّها تزامنت أيضًا مع استعادة موقف مؤسّس الثورة والنظام، الإمام الخميني في تشرين الثاني 1979 خلال استلامه رسالة من البابا يوحنا بولس الثاني، تتعلق بأزمة رهائن السفارة الأميركية في طهران.

التغريدة تكشف عن الموقف الإيراني في التعامل مع زيارة البابا العراق من منطلق سياسي، وما يمكن أن تنتجه من حقائق تطال الدور والموقع الرمزي والتمثيلي لمرجعية النظام الإسلامي وقيادته الدينية، في السعي لتكون المرجعية العالمية الدينية والسياسية التي تتجاوز المكوّن الإسلامي الشيعي، إلى كل المكوّنات المذهبية الإسلامية الأخرى بكل تنوّعاتها ومدارسها الفقهية والأصولية والفكرية رغم استحالة تطبيق هذه الأفكار.

الخوف يكمن من جهود قد تُبذل ما بعد انتهاء الزيارة، لإفراغها من نتائجها وثمارها. ولعلّ القوى السياسية العراقية تمتلك قدرةً فائقة في هدر الفرص وتضييعها وإفشالها، قد تلجأ إلى استخدامها

لا شك أنّ العلاقة بين المرجعيّتين النجفية – العراقية والقمّية – الإيرانية، فيها نسبة ما من الحساسية على خلفية الرؤية الفقهية بينهما حول الموقف من “ولاية الفقيه” الخاصة والعامة، أو المحدّدة والمطلقة، وما يترتب عليها من أدوار اجتماعية وسياسية. وهي التي أوحت في أكثر من محطة من تاريخ العراق الحديث ما بعد 2003 بوجود تباين في المواقف بينهما، خصوصًا ما يتعلق بالحوزة النجفيّة، وصعوبة أن تكون تفصيلًا يلغي خصوصيتها العراقية من جهة، وعمومية تمثيلها التاريخي من جهة علميّة وفقهيّة. وقد فاقم هذه الحساسية الموقف الناقد لمرجعية النجف من الأدوار التي تلعبها الجمهورية الإسلامية الإيرانية على الساحة العراقية، والتي تأتي في الكثير من الأحيان، وبحسب رؤية نجفيّة، على حساب الدولة العراقية ومؤسساتها. وقد تمظهرت في عزوف النجف عن التعامل مع هذه الأدوار، وعدم استقبال موفدين وزائرين رفيعي المستوى في النظام، خصوصًا رئيسي السلطة القضائية، السابق السيد محمود هاشمي الشاهرودي، والحالي السيد إبراهيم رئيسي، مع رمزيتهما الدينية، خصوصًا الشاهرودي الذي يُعتبر من أبناء الحوزة النجفيّة وأحد أعلامها الفقهيّة البارزة حينها.

إصرار مرجعية النجف على التمسّك بالدور الرعائي والإرشادي والتوجيهي، في ما يتعلق بتطورات الساحة العراقية وما فيها من تعقيدات أمنية وعسكرية وسياسية واجتماعية واقتصادية، أفشل كلّ محاولات جرّها إلى منزلقات التعامل أو التدخل في التفاصيل اليومية، والمسارات السياسية المباشرة. ما جعلها محصّنة ومنع تحويلها إلى طرف منخرط بالصراعات، فحافظت على موقعها الإرشادي الذي عقّد عملية تحويلها إلى جزء من العملية السياسية، لصالح دور أكبر وأوسع لمرجعيات خارج النجف، أقدر على التأثير والتحكّم بمسارات السياسية، بما تملك من أدوات سلطوية وعملانيّة تسمح لها بلعب هذا الدور. ولعلّ ما جاء في البيان الصادر عن مكتب السيد السيستاني حول اللقاء مع البابا فرنسيس، ربما يزيد من هذه الحساسية، لأنّه تعامل مع مسائل لا تقف عند حدود الجغرافيا العراقية، بل تتعدّاها إلى الرؤية حول المسائل الإنسانية وما فيها من ظلم يطال الشعوب، بسبب غياب العدالة الإنسانية لا سيما في الموضوع الفلسطيني.

قد يكون من السهل التأسيس على هذا اللقاء التاريخي، لبناء مسار من الحوار والعلاقة والصداقة يستكمل ما تمّ تكريسه في ميثاق الأخوّة في أبو ظبي. إلا أنّ الخوف يكمن من جهود قد تُبذل ما بعد انتهاء الزيارة، لإفراغها من نتائجها وثمارها. ولعلّ القوى السياسية العراقية تمتلك قدرةً فائقة في هدر الفرص وتضييعها وإفشالها، قد تلجأ إلى استخدامها. فهل ستكون الحكومة في بغداد قادرة على قطع الطريق أمام ما قد يبرز من عراقيل، بحيث تنحج في الاستثمار في هذه الزيارة، على الأقل على المستوى الداخلي من أجل تعزيز السلم المجتمعي، وإعادة ترميم التصدّعات التي طالت الحياة المشتركة بين المكونات الدينية والمذهبية والعرقيّة العراقية؟

إقرأ أيضاً: أصداء الزيارة البابوية للعراق لبنانيًّا: تحالف الأقلّيات يترنّح

هذا هو الخوف الحقيقي: أن تنتهي مفاعيل الزيارة في اللحظة التي تغادر فيها طائرة البابا الأجواء العراقية، أو وهي لا تزال في الأجواء. وهو ما يبدو أنّه قد حدث، على الأقلّ بما يخصّ هذا اللقاء، وفق ما ظهر في البيانين الصادرين، عن النجف وعن البابا.

فقد دعا السيد السيستاني الفاتيكان “إلى تضافر الجهود والعمل على تحقيق العدالة الإنسانية في العالم ومحاربة الظلم خصوصاً الآتي من فلسطين”. في حين وضع قداسة البابا اللقاء في إطار “شكر السيستاني على دوره مع العراقيين في الدفاع عن المكوّنات العراقية”، ما قد يعني عدم ترتيب نتائج تتعدّى هذه الحدود.

مواضيع ذات صلة

اليوم التّالي لـ”الحزب”: تعايش السّلاح مع الرّقابة الأميركيّة؟

ستّون يوماً ستحدّد وجه لبنان لعشرين سنة مقبلة. وما سيحدث (فيها) خلالها سيكون أكثر تعقيداً ومشقّة من أن تحسم أمره بنود الاتّفاق الذي أنجزه المفاوض…

لا تنخدعوا “بفائض الضّعف” كما خُدعتم “بفائض القوّة”

يقول دبلوماسي عربي في مجلس خاصّ: “خدع “الحزب” اللبنانيين وخدع نفسه وجمهوره بمقولة فائض القوّة. على اللبنانيين اليوم عدم خداع أنفسهم بالمراهنة على فائض الضعف…

إيران تتعظ… وتتراجع تكتيكياً

يتراءى للبعض أنّ رياح تغيير الأسلوب الإيراني بدأت تعصف في طهران مع السماح بوصول مسعود بزشكيان للرئاسة، ليتوطّد هذا النهج بعد فوز دونالد ترامب بولاية…

الحروب ليست حلّاً…  

عالم الحروب اليوم أعمق وأخطر، وقد وصل إلى قلب أوروبا بهجمة روسيا على أوكرانيا عام 2022 التي استمرّت حتى اليوم. وكأنّما كانت إسرائيل تنتظر مسوِّغاً…