خلافات “الزبائنية”.. تطيّر قرض البنك الدولي؟

مدة القراءة 6 د

من حيث المبدأ، وافق مجلس أمناء البنك الدولي على منح لبنان قرض الـ246 مليون دولار، لمساعدة الأسر الأشد فقراً. لكنّ ألغام السياسة مازالت مزروعة في مسار القرض، من سعر الصرف الذي سيتم على أساسه صرف المساعدات للأسر، إلى قوائم المستفيدين ومعيار تحديد العائلات المشمولة فيها، مروراً بآليات إقرار المشروع المتعثّرة في مجلسي الوزراء والنواب. في لبنان، حين تبدو الصورة العامّة إيجابيّة في أي موضوع، غالباً ما يُقال إنّ الشيطان يكمن في التفاصيل، لكن هذه المرّة يبدو أن تفاصيل القرض ستكون مليئة بشياطين عديدة.

في البداية، ووفقاً لمصادر البنك الدولي لـ”أساس”، كان المفترض، وفقاً لصيغة المشروع الأساسيّة، أن يتم منح هذا القرض للمستفيدين منه بالدولار النقدي. لكنّ بعد إعطاء وزير الماليّة غازي وزني صلاحية التفاوض مع البنك الدولي حول القرض في بداية الشهر الماضي، اتجه الوزير إلى التفاهم مع حاكم مصرف لبنان على إيداع دولارات القرض لدى المصرف المركزي، في مقابل صرف المساعدات بالليرة اللبنانيّة وفقاً لسعر صرف يبلغ 6,240 ليرة للدولار. وهكذا كانت النتيجة تقليص القيمة التي تستفيد منها الأسر الفقيرة إلى نحو 70% من قيمة القرض الأساسيّة، بالنظر إلى الفرق بين سعر صرف الدولار الفعلي في السوق السوداء، وسعر الصرف الذي سيتم على أساسه تحويل المساعدات بالليرة. وفي المقابل سيستفيد مصرف لبنان من دولارات القرض لضمها إلى احتياطاته، التي يتم استعمالها حاليّاً لدعم استيراد السلع الأساسيّة.

هذه التطورات أثارت زوبعة قاسية من الانتقادات، إذ أنّ فكرة القرض الأساسيّة تقوم على مبدأ تقديم الدعم النقدي المباشر للأسر الأكثر حاجة، في حين أنّ إيداع الدولارات لدى مصرف لبنان سيعني استعمالها لدعم الاستيراد، الذي تستفيد منه جميع الأسر المقيمة بما فيها الأسر الميسورة. مع العلم أن ثمّة شكوكاً حول جدوى الإنفاق على دعم الاستيراد نفسه، من ناحية تهريب بعض السلع الأساسيّة المستوردة إلى الخارج، وإساءة إستعمال آليات الدعم لتهريب الدولارات إلى الخارج. كما أشارت بعض الانتقادات إلى حجم التباين بين الدولارات التي تم استعمالها من احتياطات مصرف لبنان للدعم، وبين حجم الانخفاض في الاحتياطات نفسها، ما يشير إلى استعمال هذه الإحتياطات لأهداف أخرى غير دعم الاستيراد.

بعد إعطاء وزير الماليّة غازي وزني صلاحية التفاوض مع البنك الدولي حول القرض في بداية الشهر الماضي، اتجه الوزير إلى التفاهم مع حاكم مصرف لبنان على إيداع دولارات القرض لدى المصرف المركزي

ولذلك، وبعد بروز هذه الانتقادات، تشير مصادر البنك الدولي إلى أنّ جهات نافذة داخل مؤسسات البنك أعادت تحريك الموضوع، من خلال الضغط لإعادة النظر بآليّة دفع المساعدات النقديّة، خصوصاً أن تثبيت سعر الصرف المعمول به لدفع قيمة المساعدات عند مستوى 6240 ليرة للدولار سيعني انخفاض قيمة هذه المساعدات مع كل هبوط إضافي في سعر صرف الليرة اللبنانيّة مقابل الدولار. أما من ناحية الحكومة، فيبدو أنّ تفاهم وزير الماليّة مع حاكم مصرف لبنان على هذه الصيغة خلال المفاوضات مع البنك الدولي أثارت زوبعة من العتراضات التي لم يتم معالجتها بعد من قبل عدد من الوزراء والإستشاريين.

الإشكاليّة الثانية بخصوص المشروع تكمن اليوم في المعايير التي سيتم على أساسها تحديد العائلات المستفيدة منه. فوزارة الشؤون الإجتماعيّة تملك اليوم لوائح بنحو 150 ألف عائلة من العائلات الأكثر فقراً، كما ثمّة لوائح بنحو 104 آلاف طلب آخر تلقّته الوزارة من البلديات في المناطق اللبنانيّة المختلفة. وبالإضافة إلى كل هذه اللوائح، من المفترض أن تفتح الوزارة الباب مجدداً لتقديم طلبات جديدة عبر مراكز الوزارة في المناطق، بهدف تحديث قواعد البيانات وإضافة العائلات التي تضرّرت بفعل الإقفال العام هذه السنة.

وفي مقابل عدد الطلبات الضخم هذا، من المفترض أن يقتصر عدد المستفيدين من المشروع على نحو 147 ألف عائلة فقط، ما يعني أنّ وزارة الشؤون الإجتماعيّة عليها أن تضع معايير واضحة لحصر المساعدات بالعائلات الأكثر حاجة من بين العائلات المدرجة طلباتها في اللوائح المختلفة. مع العلم أنّ التحدّي الأساسي أنّ الوزارة لا تملك أي آليّات محكمة قادرة على التأكد من مستوى الدخل المصرّح عنه في الطلبات، فيما سيصعب التأكّد من موضوعيّة معيار الكشوفات الميدانيّة الذي تتحدّث عنه الوزارة اليوم.

وزارة الشؤون الإجتماعيّة تملك اليوم لوائح بنحو 150 ألف عائلة من العائلات الأكثر فقراً، كما ثمّة لوائح بنحو 104 آلاف طلب آخر تلقّته الوزارة من البلديات في المناطق اللبنانيّة المختلفة

طريقة حصر اللوائح وتحديد الأسر المستفيدة بدأ بدوره يثير زوبعة من الجدال داخل الحكومة، ومن المرتقب أن يشتدّ هذا السجال خلال الفترة المقبلة بالتوازي مع اقتراب مرحلة تطبيق المشروع. ولذلك، بات التخوّف الأساسي يتعلّق اليوم بإمكانية تحوّل المشروع نفسه إلى أداة من أدوات توزيع المنافع الزبائنيّة من قبل القوى السياسيّة في المناطق. وفي الوقت نفسه ثمّة خشية من أن يؤدّي هذا النوع من المشادات إلى تطيير القرض نفسه، خصوصاً أنّ البنك الدولي فرض خلال المحادثات مع لبنان شروط صارمة فيما يخصّ ضرورة تحديد معايير موضوعيّة ليتم على أساسها اختيار العائلات المشاركة في المشروع.

إقرأ أيضاً: إستحقاق شباط: مجزرة مصارف… أو التأجيل مجدداً؟

أما الإشكاليّة الكبرى التي يفترض أن تتعامل معها الدولة في ما يخص القرض، فتكمن في طريقة سلوكه المسار التشريعي. فبعد توقيع وزير الماليّة العقد مع البنك الدولي خلال الفترة المقبلة، من المفترض أن يقرّ مجلس الوزراء مرسوم مشروع قانون القرض، لإحالته إلى المجلس النيابي للموافقة. لكن في ظلّ تمنّع رئيس الحكومة المستقيلة حسّان دياب عن عقد اجتماعات لحكومته المستقيلة، سيكون على لبنان انتظار تشكيل الحكومة الجديدة لتقرّ مرسوم مشروع القانون المطلوب. مع العلم أنّ تمرير مشروع القانون إلى المجلس بموجب اقتراح من النواب أنفسهم مستبعد، لأنّ التفاوض على القروض والإتفاقيات مسألة من اختصاص السلطة التنفيذيّة، إلا إذا أراد رئيس المجلس النيابي تجاوز هذه المسألة وهذا غير مرجّح حتّى اللحظة.

مسألة قرض البنك الدولي ما تزال مُحاطة بقدر كبير من العراقيل والألغام التي ستفرمل استمكال المشروع خلال الأشهر المقبلة، خصوصاً في ظل وجود حكومة تصريف أعمال غير قادرة على إقرار أبسط المتطلبات التقنيّة لتنفيذ المشروع وإنفاق الأموال المرصودة له. ولهذا السبب بالتحديد، من المستبعد أن يشكّل القرض خلال الفترة المقبلة البديل المطلوب لآليات الدعم، التي يفترض أن تحلّ مكان الدعم الذي يقدّمه مصرف لبنان حاليّاً لاستيراد السلع الأساسيّة.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…