في أجواء الأعياد المجيدة وآخرها عيد الميلاد لدى الطوائف الأرمنية، تأتينا مدينة طرابلس بـ”أحسن القصص” لنظهر وجهًا إنسانيًا جميلًا من علاقة الأرمن بالأتراك وأثرها الضارب في النسيج الإسلامي.
وسط العلاقة المحكومة حتّى اللحظة بأحقاد طويلة وحروب لم تنتهِ، تعطي طرابلس مثالاً، ربّما حصريّا، بأهلها السمحين الذين يحتضنون الاختلافات دون تمييز، مهما حاولت الدعايات السياسية إقناع الإعلام بعكسها.
إليكم التفاصيل:
في طرابلس التي حكمها الأتراك لأربعة قرون، جامع يطغى عليه النمط التركي ويلقب بـ”جامع الأرمني”. إنّه مسجد الشّكر الّذي افتتح عام 2013. ها نحن ندخل خوابي الجامع الذي يعتبر جوهرة في الإشراقة العمرانية وأحد أجمل معالم المدينة. قلّة تعرف لقبه ورواية تشييده التي حملت توقيع الرّاحل الأرمني ابن مدينة الميناء والمحترف بصناعة الخشب هاغوب أوكاجيان، الذي ارتحل منذ أقلّ من سنتين. ويحدث أنّه قبل وفاته بمدّة قصيرة، جمعنا حديث لطيف اقتادنا إلى هذه المعلومة، التي نوسّعها في محاولة لتوثيق تفصيل قد يجعل المشهد مختلفاً، أجمل، وأقلّ قتامة. أضف أنّ زخارف الداخل من إبداع الفنان الأرمني هاروت بستجيان.
وسط العلاقة المحكومة حتّى اللحظة بأحقاد طويلة وحروب لم تنتهِ، تعطي طرابلس مثالاً، ربّما حصريّا، بأهلها السمحين الذين يحتضنون الاختلافات دون تمييز، مهما حاولت الدعايات السياسية إقناع الإعلام بعكسها
ضدية “المسجد” و”الأرمني” تجسد واقعاً من الصعب تصديقه. لغة فنية بيد أرمنية تخدم الدين الإسلامي، وتعطي مثالاً قد يشذّ عن قاعدة الكراهية الطاغية في مجتمعاتنا، لكنّها حقيقية. وكم نحتاج أن يصبح الوئام والإخاء هما القاعدة.
يعرف كثيرون أنّ رجل الأعمال الطرابلسي يوسف الفتال قام بتشييد مسجد يحاكي مسجد الأمين في بيروت، أسماه “مسجد الشكر”، عن روح والديه عاصم الفتال وزوجته. واختار أن يكون موقعه على شاطىء ميناء طرابلس، في المنطقة الهادئة المعروفة بـ”راس الصخر”.
خلال عملية البناء، جرت محاولات لبناء قبّة المسجد التي تشكل بزرقتها امتداداً فنياً رائعاً نحو السماء والبحر، لكنّها كانت محكومة بالفشل. كانت القبة تتداعى باستمرار، إلى أن أوكل المهندس عبد الرحمن ثمين مهمة بناء القبة إلى الراحل هاغوب أوكاجيان، لثقته بأنّه يمتلك التقنية التي تمكّنه من نائها بأفضل المواصفات.
يخبرنا فاهي أوكاجيان، ابن هاغوب أنّ “الوالد اهتم بالهيكلة الخشبية للقبة ولكل البناء الخارجي، وتولّى تلبيس الحجر من الخارج. وكان حريصًا على الإشراف بكلّ أمانة، ما جعل القيمين على المسجد يحتكمون إلى تقييمه للمواد الأولية لا سيما الحجر الذي كان مستورداً من السعودية”.
عادة ما ينحو الدين والأعراف إلى اختيار ابن من الطائفة لبناء بيت من بيوت الله. وقد يندفع كثيرون لبناء هذا البيت مجاناً، لاعتباره مفتاحًا للخير وكسب الأجر. لكنّ عوامل عديدة جعلت الخيار يرسو على هاغوب أوكاجيان الذي بات معروفًا بـ”الحاج هاغوب”.
يعرف كثيرون أنّ رجل الأعمال الطرابلسي يوسف الفتال قام بتشييد مسجد يحاكي مسجد الأمين في بيروت، أسماه “مسجد الشكر”، عن روح والديه عاصم الفتال وزوجته. واختار أن يكون موقعه على شاطىء ميناء طرابلس، في المنطقة الهادئة المعروفة بـ”راس الصخر”
يوضح فاهي: “لا أتحدث عن صداقة ترقى لأكثر من 40 عامًا، لكن بمفهوم من شيّدوا الجامع، يجب الاستعانة بأهل الخبرة من دون الالتفات إلى طائفتهم. ووالدي راكم خبرة في ترميم الجامع المنصوري الكبير، وقدم فيما بعد استشارة لترميم مسجد السلام”.
ويضيف: “عرض والدي تلبيس جامع الشكّر بالحجر لقاء دولار واحد لكلّ متر، على مساحة 4000 متر مربّع. وهو عرض شبه مجاني. أذكر كيف تملكني الذهول أمام هذا الرقم، وكنت آنذاك في سن الـ17 ، فسألته عن دوافعه للقيام بهذه الخطوة. قال: هذا بيت الله، بيت الله لا يموت. وما نبنيه سيعمّر وستتوارثه الأجيال. البصمة لا تقدّر بثمن”.
تقنياً، المهندس عزمي الفاخوري الذي وضع تصاميم جامع محمد الأمين وأشرف على بنائه، يعرض لـ”أساس” قراءة سريعة للميزات العمرانية والجمالية لجامع الشكر، التوأم الصغير لجامع الأمين. ميزات تؤكّد على تطبّعه بالنمط العثماني، لا سيما في القبة التي عمّرها أوكاجيان: “تميزت عمارة المساجد في لبنان بالبساطة واتباع النمط العثماني في الغالب والنمط المملوكي في طرابلس، ولم يشذّ مسجد الشكر عن هذا الإطار. فنجد المسجد، وإن جنح الي نوع من التعبير التذكاري بمآذنه الأربعة، إلا أنّ القبة المركزية أو تقاطعها مع أنصاف القباب الأربعة تغطّي فراغ قاعة الصلاة، كتعبير مستمدّ من العمارة العثمانية. وتتدرج القبة المركزية وأنصاف القباب لتستند على قاعدة مستطيلة تضمّ مداخل المسجد وقاعات خدماته وتتعامل مع الطريق البحري الرئيسي. وقد تم هذا بأسلوب مملوكي مميز باحترام جسم المبنى لاتجاه القبلة وانحراف الطريق وشكل العقار”.
ويتابع: “استخدمت القناطر المدببة في تشكيل الفتحات الخارجية لمبني المسجد وكُسِيَت الواجهات بالحجر الأصفر وزيّنت بشريط قرآني، وتشكّلت المآذن الأربع ذات الجسم المثمن والرأس الهرمي حول جسم قاعة الصلاة الرباعي الأضلاع”.
وحول التفاصيل الجمالية، يعلق: “تميز المسجد بإتقان تفاصيله فكُسِيَت أرضياته الخارجية بالرخام والداخلية بالسجاد الفاخر، وتشكلت حيطانه الداخلية بالقناطر والإطارات الجحرية، وكسا أسقفه وقبابه الجفصين، وزيّنت بزخارف نباتية وآيات قرآنية من أعمال الفنان اللبناني من الطائفة الأرمنية هاروت بستجيان والخطاط فؤاد اسطفان”.
قصة جامع الشكر غنيّة بالعبر. أهمها ما يجعلنا نشكر الله على نعمة التآخي في هذه المدينة، وبالشكر تدوم النعم. ومن دروسه ما يجعلنا نتفكر بوحدانية الله الذي يعبده كل على طريقته، وهذا ما أكّده القرآن الكريم في آيته: “ولتجدنّ أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى”.
إقرأ أيضاً: تحفٌ معروضة للبيع… تخبرنا أنّنا نحن تحفٌ أيضاً
هي معانٍ حكيمة يلمس فاهي أوكاجيان أبعادها وبل ضرورتها، فيشارك شعوره بالانتماء لطرابلس خاتما: “أنا أرمني وبيئتي طرابلسية ودمّي طرابلسي. ما قام به والدي جعلني أتجذّر أكثر في انتمائي لهذه المدينة. أنا فخور بطرابلس ولا أعتقد أنني أستطيع العيش في أي بقعة أو نسيج اجتماعي آخر من لبنان”.
[PHOTO]