وحيد حامد مترجّلاً: “حاجات كثيرة حترخص…”

مدة القراءة 5 د

فيلمان من كتابة وحيد حامد يمكن أن أعيد مشاهدتهما مئاتِ المرّات من دون ضجر. ورافقاني في مراحل مختلفة من حياتي منذ الطفولة إلى المراهقة وحتى “النضج” السياسي. وربما يكون هذا انطباع كثيرين بشأن هذين الفيلمين العالقين في الذاكرة الجماعية والقادرين – على الرغم من مصريتيهما – على تجاوز حدود “السجن المصري”، تماماً كما الطابة التي تخرج من السجن في “طيور الظلام”، وهو أحد هذين الفيلمين.

“طيور الظلام” فيلمٌ يكاد يلخّص التركيبة المجتمعية / السياسية المصرية في قالبٍ درامي مشبّع بالحوارات والمواقف التي تمسّ فئات متنوعة من المشاهدين على مستوى الجنس والأعمار والطبقات الاجتماعية. ويمكن العثور فيه على تنوّع مدهش في الشخصيات التي نقع عليها في الشارعين المصري والعربي.

ولأنّ وحيد حامد شديد الذكاء في كتابة السيناريو وخصوصاً سيناريو هذا الفيلم، فإنّ المشاهد يجد نفسه في حيرة إذا ما أراد تحديد موقفٍ من الرسائل التي يضمّنها حامد في القصة عموماً وفي المشاهد والحوارات خصوصاً. فلا يستطيع المرء أن يركن إلى حسمٍ في الحكم على تموضع حامد في السينما. هل يعمل لصالح النظام، وتحت السقف المرسوم له ولغيره؟ أم أنه يتحايل على هذا النظام ليمرّر نقداً لاذعاً كالسمّ في الدسم؟ وهل يكون وحيد حامد أوّل متذوّقي هذا السمّ بما أنه طابخه؟

“طيور الظلام” فيلمٌ يكاد يلخّص التركيبة المجتمعية / السياسية المصرية في قالبٍ درامي مشبّع بالحوارات والمواقف التي تمسّ فئات متنوعة من المشاهدين على مستوى الجنس والأعمار والطبقات الاجتماعية

على الغالب يتقاطع وحيد حامد مع النظام في طيور الظلام لكنه في الآن عينه يؤنسن المعارضة وينسج “صداقةً” معها ويغني لها في الفيلم: “يا واش يا واش يا مرجيحة”.

ما يميّز وحيد حامد هي هذه القدرة على جمع الأضداد على قاعدة أنّ “الضدَّ يظهر حسنه الضدُّ”، فحينما يُظهر لنا في الفيلم أسلوب النظام الفاسد في الحكم يقرّب إلينا الاخوان المسلمين “المظلومين”، ثم حين نكاد نأنس لتعاطفٍ مع الإخوان (كما حدث في الثورة المصرية) يُرينا سلوكهم الإلغائي العنيف “والإرهابي”، فتبدو معه الحكومة والعسكر “دحّة”.

كلُّ هذا يضعه حامد في قالبٍ قائمٍ على التناقضات بين الجدّ واللعبِ وبين الدراما والكوميديا، لينتهي الصراع إلى تحطيم النمط السائد، أو إلى تحطيم المدينة نفسها كما في الفيلم. طابة النهاية في “طيور الظلام” المفلتة من أقدام الصراع بين الحكومة والإخوان تطير بعيداً وتكسر المدينة، على عكس نهاية “الإرهاب والكباب”، وهو الفيلم الثاني الذي بدأت الحديث عنه. ونهايته يتركها وحيد حامد مفتوحةً وكأنّما تعيد انتاج الرتابة في الحياة السياسية بعد “الثورة” التي يقوم بها أحمد (يلعب دوره عادل إمام) في “مجمع التحرير”.

يشكّل وحيد حامد في “الإرهاب والكباب” شخصياته من عجين الشارع المصري في يومياته الرتيبة وينقلنا، عبر رؤية المخرج شريف عرفة، من البيت إلى الأوتوبيس ومنه إلى الدوائر الحكومية مع شخصيات تتنوّع بين الموظّف والعسكري وعاملة الجنس والرجل المتأثر بـ”أوروبا والدول المتقدّمة”. وطبعاً يصوّر لنا الحكومة في طابع هزلي. لكنّه في الآن عينه يُخرج من الهزل رسائل سياسية واضحة تعيد رسم الخطوط الحمر كما يحدّدها وزير الداخلية الذي يلعب دوره كمال الشناوي حينما يقول بحزم: “لازم تعرفوا ان الحكومة ما لهاش دراع علشان يتلوي”.

لكنّ حامد نفسه في الفيلمين المذكورين يلوي ذراع الحكومة، هذا الذي يؤلم ولا يُعطَب، والذي ينتهي دائماً إلى تسوية مفادها أنّ الشعوب العربية تريد بديهيات الحقوق من أنظمتها وهي قابلة بهذا الحد الأدنى، ومع ذلك فإن الأنظمة بوقاحتها الموصوفة تأخذ كل شيء ولا تعطي.

كان وحيد حامد من خلال هذين الفيلمين يتنبأ بمآلات “الربيع العربي” الذي بدأ بحرق محمد البوعزيزي نفسه في مشهدٍ كامل القسوة من دون أيّ مجالٍ للكوميديا السوداء كما صوّرها حامد في الشخصية التي لعبها علاء وليّ الدين. إذ يهدد بالانتحار من أعلى سطح مجمع التحرير في “الإرهاب والكباب”.

على الغالب يتقاطع وحيد حامد مع النظام في طيور الظلام لكنه في الآن عينه يؤنسن المعارضة وينسج “صداقةً” معها ويغني لها في الفيلم: “يا واش يا واش يا مرجيحة”

تنبّأ حامد بأنّ الأنظمة لا تسمع شعوبها الا في حالتين: انتحارهم أو لجوئهم إلى العنف، حتى وإن كانوا لا يدرون تماماً ماذا يريدون أو لا يملكون البديل عن الأنظمة التي يطالبون بإسقاطها. لأن بعض الثورات، ببساطة، لا تقوم على عناوين عريضة ويمكن أن تختصر بهتاف شبيه بـ”الكباب الكباب لنخلّي عيشتكو هباب”. في الفيلم يغادر الناس مجمع التحرير ،خاطفين ومختَطفين، ويمرّون من تحت نظرات الحكومة التي لا تستطيع التمييز بين “الإرهابيين” وبين مواطنيها… الفيلم يوصلنا إلى هذه الحتمية: العنف يخرج فجأةً من بطونٍ خاوية أصحابها لطالما كانوا مسالمين ولا يخرج بالضرورة من عناوين أيديولوجية وسياسية كبيرة.

إقرأ أيضاً: عن “الغريب” فضل شاكر: أيّ عدالة؟

في مصر، في الواقع، خارج السينما، غادر الثوار جميعاً ميدان التحرير حيث المجمّع الذي صوّر فيه “الإرهاب والكباب”، بعدما انتهى المصير المصري إلى إنتاج سلطةٍ شبيهة بالسلطة التي أطاح بها الثوّار بعد المرور بتجربة حكم الإخوان.

فيما الميدان فارغ تماماً من الثوار، يغادر وحيد حامد ميدانه وملعبه ليترك إرثاً ثميناً من الأفلام تصلح لكلّ زمانٍ ومكان فيما “حاجات كثيرة حترخص وتبقى بسعر التراب، أنا وانت والأستاذ وحضراتكم أجمعين”، يقولها وحيد حامد، كما لو أنّه الشخصية التي كتب لها هذا الكلام في “الإرهاب والكباب”، ثم يترجّل من الكرة الأرضية المزدحمة، ويختفي، ربما في زحام جديد…

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…