منذ ألفَيْ عام أخذ المسيحيون عن الوثنيّة الرومانيّة عيد الشمس واعتمدوه في بداية القرن الرابع تاريخاً للاحتفال بالميلاد، ميلاد يسوع. يعيد البعض تقليدَ شجرة الميلاد إلى الشعب “السَلتيّ” (2000 – 1200 عام قبل المسيح) الذي كان يزيّن شجرة بتعليق ثمار زراعاته عليها ويقدّمها للآلهة احتفالاً بعودة الشمس.
في بداية القرن السادس، سمحت بلدية مدينة “سيليستا” في منطقة الألزاس في فرنسا بقطع الأشجار لمناسبة الميلاد. كانت العائلات تزيّنها بالتفّاح، تقليداً لشجرة التفاح في “الجنّة” (بحسب كتاب التوراة). بعدئذٍ راحوا يزيّنوها بالحلويات للأطفال. بقيت هذه العادة محصورة في الألزاس حتى عام 1872، حين أقامت باريس أوّل احتفال بشجرة الميلاد.
فرنسا اليوم دولة علمانيّة بدستورها وقوانينها وقضائها ومدارسها وجامعاتها. كلّ شيء علمانيّ. أساس علمانيّتها هو قانون 1905 الشهير، أو ما يُعرف بالفرنسيّة loi 1905. في السنوات الأخيرة تحوّلت أسماء العطل المدرسيّة تماشياً مع علمانيّة الدولة. “عطلة جميع القدّيسين” أصبحت عطلة الخريف. و”عطلة عيد الفصح” أصبح اسمها “عطلة الربيع”، باستثناء “عطلة الميلاد” بقيت على اسمها.
أصبح “عيد الميلاد”، أو “كريسماس” (بالإنكليزية)، مناسبة اجتماعيّة وفرصة تجاريّة وظاهرة عالميّة
المسلم واليهودي والعلماني…
يدرس مالك في مدرسة الدولة (المدرسة الرسميّة). وهي مدرسة علمانيّة بحسب قانون 1905. لا “وجود” للدين فيها تدريساً ولا ثقافةً ولا ممارسة. بيد أنّه في يوم الثلاثاء الذي سبق “عطلة الميلاد” زار “بابا نويل” المدرسة. وزّع الهدايا على الأولاد: ثيودور، وماريا، ومحمد، وعائشة وحسام وبنيامين (اليهودي) وسارة (اليهوديّة) و… ومالك أيضاً. وكان هؤلاء قد صنعوا شجرة الميلاد من ورق. زيّنوها بطفولتهم البريئة. وعند المساء أخذوها إلى المنزل وزيّنوا بها غرفهم. وربّما وضعها أهاليهم في المكتبة إلى جانب المُصحف أو كتاب التوراة.
في مرفأ مرسيليا القديم، أُقيم سوق الميلاد، حيث تبيع أكشاكٌ أطباق المنطقة والنبيذ الساخن، فيما أخرى تبيع تماثيل المغارة، على وقع معزوفات فرق موسيقيّة تراثيّة. غالبية الحضور هم من الجزائريين والمغربيّين والتوانسة من ذوي الأصول المغربيّة المسلمة الذين يشكّلون حوالي نصف سكّان المدينة. يتنزّهون. يستمتعون. يعيشون المناسبة.
لكن أيّ مناسبة؟
ميلاد “الخليج” والصين..
بعيداً من فرنسا، ارتفعت أشجار الميلاد في المراكز التجاريّة والفنادق في دولة الإمارات (الإسلاميّة)، وكذلك في دولة قطر التي أذهلت العالم بانفتاحها الاجتماعي، إضافة إلى دقّة تنظيمها لمباريات كأس العالم لكرة القدم. حتى في عاصمة المملكة العربيّة السعوديّة الرياض، ارتفعت أشجار الميلاد في الفنادق احتفاء بالمناسبة. وهنا نسأل أيضاً:
أيّ مناسبة؟
لقد أصبح “عيد الميلاد”، أو “كريسماس” (بالإنكليزية)، مناسبة اجتماعيّة وفرصة تجاريّة وظاهرة عالميّة.
1- اجتماعياً: تحوّل الميلاد مناسبةً لتقديم الهدايا. بات يعني الهديّة، ليس للأطفال فحسب، إنّما للكبار أيضاً. فلا ميلاد بدون هديّة. بدأت هذه العادة منذ نهاية القرن التاسع عشر. وانتشرت في النصف الثاني من القرن العشرين. لقد باتت شجرة الميلاد تقليداً اجتماعياً. في الماضي، كانت والدتي تقيم المغارة تحت شجرة الميلاد. بالنسبة إليها لا شجرة بدون مغارة ولا مغارة من دون شجرة. وكانت تبدأ استعداداتها بزراعة القمح والعدس في عيد البربارة في 4 كانون الأول، وتتركها حتى 2 شباط، عيد دخول المسيح إلى الهيكل، أو أقلّه حتى عيد الغطاس في 6 كانون الثاني، عيد “اعتماد يسوع على يد يوحنّا المعمدان”. “أيام أوّل تحوّل”، كان يقول جدّي، إذ باتت شجرة الميلاد زينة المنازل والمتاجر والفنادق والشوارع في نهاية كلّ سنة وبداية السنة الجديدة، بلا رمزية دينيّة حتى في الغرب المسيحيّ. اختفت مغارة يسوع.
بعيداً من فرنسا، ارتفعت أشجار الميلاد في المراكز التجاريّة والفنادق في دولة الإمارات (الإسلاميّة)، وكذلك في دولة قطر التي أذهلت العالم بانفتاحها الاجتماعي
2- “كريسماس” فرصة تجارية: بحسب إحصاءات الدول، يشكّل الميلاد حوالي 30% من رقم الأعمال للتجّار. ومع انتشار ظاهرة الشراء عبر الإنترنت أصبحت شركات البيع عبر الإنترنت تُضاعف فرق عملها خلال فترة الميلاد. أصبح “بابا نويل” صينيّاً. لم يعد ذاك “القديس نقولا” الذي يأتي من القطب الشمالي على عربة تجرّها الغزلان، ولو أنّ التشبّه به وبلحيته وشاربيه البيض وثيابه الحمر وبطنه المنفوخ مستمرّ. لم تعد مصانعه في القطب الشمالي، إنّما في منطقة “زيجيانغ” الصينيّة حيث تُصنّع حوالي 60% من أشجار الميلاد الصناعية وزينتها وألعاب الأطفال في العالم. لم يعد مساعدوه أولئك الرجال الذين تصوّرهم روايات الأطفال قصيري القامة، يعملون في تلقّي رسائل الأطفال وقراءتها وإعداد الهدايا لهم. فقد باتوا بغالبيتهم اليوم عمّالاً صينيّين.
إقرأ أيضاً: العالم وين ونحنا وين؟!
3- ظاهرة “عالمية”: الميلاد هو إحدى أكبر ظواهر العولمة التي يسيطر عليها الغرب ذو الخلفيّة المسيحيّة، وفي مقدَّمه الولايات المتحدة الأميركيّة، وتشكّل أحد عناصر قوّته الناعمة. لذلك انتشرت عادات الميلاد وتقاليده الغربيّة لدى الشعوب حتى تلك التي تتخطّى أعدادها المليارات، وتشكّل عوالم قائمة بذاتها. بالأمس، في مدينة ستراسبورغ الفرنسيّة (في الألزاس) حيث تُقام أشهر أسواق الميلاد في أوروبا، ولذلك تُسمّى “عاصمة الميلاد”، كان حضور الآسيويين كبيراً جدّاً. كانوا يستمتعون بالأسواق. يتفاعلون مع أغاني الميلاد بالإنكليزية والفرنسيّة “المعَولمة”. يلتقطون الصور والفيديو لأشجار الميلاد وزينتها المميّزة في شوارع المدينة التاريخيّة. مساء التقيت في أحد مطاعم المدينة “فيجاي سينغ”، وهو هنديّ هندوسيّ يكتب نصوصاً للأفلام الوثائقيّة، برفقة زوجته. كانا منبهرين بأسواق الميلاد في المدينة. إحدى ظواهر العولمة في الميلاد عشاء “كريسماس”. وهو لقاء عائلي لتبادل الهدايا حول مائدة عشاء غنيّة بالأطباق تزيّنها “الحبشة”. في السنوات التي سبقت الانهيار في لبنان انتشر بيع “حبشة العيد” في هذه الفترة من السنة، قبل أن تصبح العائلات اللبنانيّة عاجزة حتى عن شراء دجاجة أو ديك للعيد.
*أستاذ في الجامعة اللبنانية
لمتابعة الكاتب على تويتر: Fadi_ahmar@