شظايا المونديال: عروبة الحوثيين… وهولنديّة المغاربة

مدة القراءة 6 د

في ساحة من أشدّ ساحات العاصمة الهولندية أمستردام ازدحاماً بسكّان الجالية المغربية المهاجرة، وقفتْ سيّارة شرطة هولندية يراقب عناصرها احتفالات المغاربة العارمة بفوز منتخبهم على منتخب البرتغال في مونديال قطر. وكان علم المغرب يرفرف على زجاج نوافذ سيارة الشرطة الهولندية. واقترب جمع من المحتفلين المغاربة والعرب، وراحوا يلفّون أحد رجال البوليس بعلم مغربي، فيما هو يحاول الخروج من وسط جموعهم المحتشدة. ورافقت هذا المشهد الذي صُوِّر وانتشر على شريط فيديو أغنيةٌ تقول كلماتها: “أنا مغربي / أصلي مغربي / أرضي مغربية / والمغرب أرض جدادي”.

الهولنديون يعاملون دائماً المهاجرين المغاربة في بلدهم على أنّهم مغاربة. وعندما يجيدون لعبة كرة القدم أو ينجحون في أيّ من مجالات العمل، تطلبون منهم فجأة أن يصيروا هولنديين

زياش والطفل الحائر

مثال آخر على ضفّة أخرى عن تمظهر الهويّات واشتباكها طوال أيام المونديال، عبّر عنه ابن صديقتي التي تضع في معصمها إسوارة يزيّنها علم بلدها الأصلي. الابن – الفتى تتجاذبه هويّتا والده المغربي وأمّه الإسبانية، وبدا منصرفاً عن متابعة المباراة بين منتخبي المغرب وإسبانيا، بعدما كان من الأشدّ حماسة بين أقرانه في بداية المونديال. وحين سألته في بداية المباراة بين هذين المنتخبين أيّهما يشجّع لتقصّي مكنون موقفه، أشاح بوجهه قائلاً: لا أحفل بالمونديال.

قدَّرتُ أنّ سلوكه هذا وإجابته الممتعضة ليسا سوى تنصّل في محاولة منه لتخليص نفسه من مشقّة شعوره المضطرب حيال هزيمة أو انتصار أيّ من المنتخبين، اللذين يمثّلان أحد مظاهر هويّته المنقسمة. وقد يكون سلوكه هذا أحد مظاهر التمزّق والصراع اللذين يمكن أن ينشآ لدى أصحاب الهويّات المزدوجة أو المنقسمة، نسباً أو مولداً أو نشأة أو لغة أو ثقافة أو نمط حياة، في غمرة مفارقات الهويّات الكثيرة في عالم مرشّح أكثر فأكثر لاختلاط شعوبه، وتقاطع وتأرجح مصائر أفراده بين ثقافات وهويّات كثيرة.

يعيدنا هذا إلى ما سبق أن أُثير من ضجّة في عام 2015 حول اللاعب حكيم زياش المزدوج الجنسية: المغربي – الهولندي أو العكس الهولندي – المغربي. قد يكون للترتيب أهميّة، وقد حسمه اللاعب بقراره أن يلعب مع المنتخب المغربي في مونديال قطر.

الأرجح أنّ زياش عاش شعوريّاً على مفترق طرق، حين تنازعته الهويّة والانتماء بين “بلدَيْه”. فهو حائر تتقاسمه جنسيّتان وموطنان وثقافتان: هولندا التي وُلد فيها واحتضنت طفولته اليتيمة بعد وفاة والده، فنشأ فيها واكتسب موهبته برعايتها، ونمت قدراته الرياضية الكروية في ملاعبها ومؤسّساتها وأنديتها. لكنّ هذا كلّه يصعِّب عليه القفز فوق أصله المغربي الذي ينتمي اليه دماً ونسباً وديناً وثقافة تحدّرت إليه من والديه.

كتب صحافي رياضي هولندي، ردّاً على الأصوات التي انتقدت اللاعبين الهولنديين من أصل مغربي بسبب اختيارهم اللعب في المنتخب المغربي، أنّ “الهولنديين يعاملون دائماً المهاجرين المغاربة في بلدهم على أنّهم مغاربة. وعندما يجيدون لعبة كرة القدم أو ينجحون في أيّ من مجالات العمل، تطلبون منهم فجأة أن يصيروا هولنديين”!

للمتشكّك أن يرى بعينيه ما كشفه المشهد الكروي في المونديال القطري: استطاع في شهر أن يجمع ما فرّقته الأنظمة لعقود، وأن يجزم أنّ الشعوب العربية أكثر وحدة وانسجاماً وتصالحاً فيما بينها من أنظمتها

منتهى العولمة والوطنيّة

إذا كانت هذه حال لاعبين كثر غير زياش في منتخبات عربية وسواها، ممّن اقتسمت نشأتهم وحياتهم وصنعت مهاراتهم هويّات وبلدان كثيرة، فإنّ حمّى الهويّات والعصبيّات التي يبعثها هدير مشجّعي المنتخبات الوطنية في الملاعب تؤجّج الارتداد إلى هويّات يُعتقد أنّها الأصل، وأنّ ما عداها فروع وعرَض وروافد وهوامش هويّاتيّة وثقافية.

هكذا تغيب الحقيقة الماثلة لكثرة الانتماءات والهويّات المزدوجة، المختلطة والسائلة، وتتجمّد ولو لمدّة شهر كما يحدث في كرنفال كأس العالم وموندياله الملتبس: منتهى الحداثة والعولمة في تعدّد هويّات اللاعبين وانقسامها، وفي لقاء المنتخبات العالمية ومبارياتها، وفي نقل صورها وتشارك بشر الأرض كافّة في مشاهدتها بالتساوي، في مقابل منتهى الروح الوطنية المنبعثة محمومة في الملاعب وبين كتل المشجّعين.

روح عربيّة واحدة 

قد تكون العصبيّات والهويّات وشعاراتها، التي يثيرها مونديال كأس العالم، أشدّ انبعاثاً ووضوحاً في الحالة العربية. إذ بدا كأنّما الكرة الخلّابة التي تتدحرج على أرض عربية في مونديال قطر، لا تتدحرج على أرض الملاعب القطرية الخضراء فحسب، بل وبين طيّات التاريخ وصفحاته المطويّة والسحيقة والآنيّة المشرّعة، وفي كواليس السياسة أيضاً. وهي تتدحرج في الوقت عينه بين تمايزات الثقافات والهويّات والهجرات ومزاج الشعوب ومشاعرها.

للمتشكّك أن يرى بعينيه ما كشفه المشهد الكروي في المونديال القطري: استطاع في شهر أن يجمع ما فرّقته الأنظمة لعقود، وأن يجزم أنّ الشعوب العربية أكثر وحدة وانسجاماً وتصالحاً فيما بينها من أنظمتها، بل وكشف أنّ الفرقة تؤجّجها الأنظمة، فتقع الشعوب في فخّها وتتحمّل تبعاتها وجريرتها. حتى إنّ المناكفات الإعلامية العربية، بين نشطاء مواقع التواصل والمنصّات التحريضية، هدأ سعيرها وضجيجها في أيام المونديال لحساب الشعار الذي انتشر: “وطن واحد حلم واحد”، وغالباً ما رافقه علم فلسطين تأكيداً على روح القضية الواحدة.

حماسة حوثيّي اليمن

قد يكون أكثرُ الأدلّة نصاعةً حماسةَ اليمنيين لفوز الفرق العربية. فاليمن المنسيّ في المشرق العربي يشهد أعنف حرب تشارك فيها دول عربية عدّة. وهو يعيش أعنف انقسام وتشظٍّ في داخله، ومنسيٌّ من محيطه الجغرافي المشرقي. لكنّ موجة الجيَشان العاطفي تفاعلاً مع المونديال القطري الكروي كانت قويّة يمنيّاً، حتى إنّها شملت جماعة الحوثي التي تناصب التحالف العربي العداء، وتستظلّ خيمة إيران المعادية للعرب.

إقرأ أيضاً: مونديال العرب: نافذة على شعوبٍ وألوانٍ ولغاتٍ وأزياء

مسَّ الجيَشان بعض قيادات الحوثيين، فلم يستطيعوا أن يكبحوا اندفاعهم، فكتبوا تغريدات على صفحاتهم مهنّئين مباركين فوز المنتخب السعودي على الفريق الأرجنتيني. وها هو أحد قياداتهم البارزة، حسين العزي، يكتب: “أنا غريم ابن عمي وأنا وابن عمي عليكم يا أرجنتين”. وهذا قبل أن تضطرّ تلك القيادات إلى مسح تغريداتها. ولربّما جاءتهم الأوامر من خارج الأرض العربية بمسح مباركاتهم وفرحتهم “الأخوية”. وربّما ما كتبه القائد الحوثي مثال على قدرة المستديرة الساحرة ومونديال قطر على تحييد مشهد الواقع العربي المتنافي مع تلك المشاعر، ولو لوقت وجيز، حتى ليظنّ المتابع أنّ الواقع الدامي والأسود، الذي فرضه الحوثيون وسواهم، ليس في حقيقته إلا مشهداً من فيلم خيالي مرعب، وليس واقعاً يوميّاً مقيماً في حياتهم وأحوال معاشهم. 

* كاتبة وباحثة وناشطة حقوقيّة يمنيّة من جنوب اليمن – حضرموت.

مواضيع ذات صلة

كريم خان يفرّغ رواية إسرائيل عن حرب “الطّوفان”

تذهب المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي إلى المسّ بـ “أبطال الحرب” في إسرائيل، رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع المقال يوآف غالانت. بات الرجلان ملاحَقَين…

هل يريد بايدن توسيع الحروب… استقبالاً لترامب؟

من حقّ الجميع أن يتفاءل بإمكانية أن تصل إلى خواتيم سعيدة المفاوضات غير المباشرة التي يقودها المبعوث الأميركي آموس هوكستين بين الفريق الرسمي اللبناني والحزب…

مواجهة ترامب للصين تبدأ في الشّرق الأوسط

 يقع الحفاظ على التفوّق الاقتصادي للولايات المتحدة الأميركية في صميم عقيدة الأمن القومي على مرّ العهود، وأصبح يشكّل هاجس القادة الأميركيين مع اقتراب الصين من…

الحلّ السعودي؟

ينبغي على واشنطن أن تُدرِكَ أنَّ المملكة العربية السعودية الأقوى تَخدُمُ الجميع، فهي قادرةٌ على إضعافِ قوّةِ إيران، كما يُمكنها أن تدفع إسرائيل إلى صُنعِ…