في عام 2003 التقيتُ وزير الإعلام العراقي محمد سعيد الصحّاف، الذي كان أحد نجوم الهزيمة العسكرية أمام الولايات المتحدة، وقد عرفه العرب باستخدامه المتكرّر لمصطلح “العلوج”، وهو المصطلح الذي حار المترجمون في ترجمة دقيقة له.
قال لي الصحّاف إنّه سبق له أن أدار مفاوضات سريّة في واشنطن مع أحد المسؤولين الأميركيين، وأنّه قدّم لهم عروضاً سخيّة، لا تُصدّق، بشأن سعر النفط العراقي الخاصّ للولايات المتحدة، وأنّ السعر المقترح هبط إلى عشرين ثمّ عشرة دولارات للبرميل، حتى وصل إلى الصفر.
وهذا بالطبع للولايات المتحدة وحدها دون سواها، وذلك مقابل إنهاء العداء بين النظام البعثي والنظام الأميركي. لكنّ الولايات المتحدة رفضت العرض رفضاً قاطعاً!
في هذا العام 2022 نشر الملياردير المصري الشهير رؤوف غبور مذكّراته، التي تحدّث فيها عن واقعةٍ مماثلة ما إن قرأتها حتى تذكّرت قصّة الصحّاف.
في عام 2003 التقيتُ وزير الإعلام العراقي محمد سعيد الصحّاف، الذي كان أحد نجوم الهزيمة العسكرية أمام الولايات المتحدة، وقد عرفه العرب باستخدامه المتكرّر لمصطلح “العلوج”، وهو المصطلح الذي حار المترجمون في ترجمة دقيقة له
رؤوف غبور.. خمسة عشر قرشاً
وُلد قطب الصناعة المصري الدكتور رؤوف غبور بعد عام من قيام ثورة 1952 في مصر، وقد نشأ في عائلة تعمل بالتجارة، ولقد تأثّر بها حتى إنّه بدأ التجارة في السابعة من عمره.
يروي غبور في قصّة مثيرة كيف حقّق أوّل ربح وهو ما زال طفلاً حين ذهب إلى محلّ لبيع البسبوسة واشترى جزءاً منها دافعاً نصف الثمن من مصروفه الخاص والنصف الثاني كان قرضاً من عاملة المنزل. ثمّ راح يبيع البسبوسة في حديقة نادي هليوبوليس، وكانت تلك أوّل خطوة في مسيرة الأرباح، وأوّل مشروع في مؤسّساته العملاقة التي تجاوز حجمها 30 مليار جنيه.
في تربية رؤوف غبور شيء لافت، وهو يختلف عن تربية كثير من أبناء الأثرياء الجدد في مصر. فلقد كان مصروفه وهو طفل 15 قرشاً في الأسبوع، بواقع قرشين تقريباً كلّ يوم. وكان بمقدور أسرته الثريّة أن تعطيه عدّة جنيهات في اليوم الواحد.
إنّها تربية جادّة، يمكن أن نجدها أيضاً في عائلة رجل الأعمال محمود العربي، لكنّها لا تتوافر بالضرورة في عائلات أخرى، ولا سيّما العائلات الجديدة أو المجهولة الثراء. إنّها تربية تشبه تربية عائلة الملياردير الأميركي بيل غيتس، وعدد كبير من أقطاب المال في الغرب، ممّن يعمل أبناؤهم في وظائف عديدة في سنوات صعودهم، على الرغم من امتلاك ذويهم مليارات الدولارات.
في تربية رؤوف غبور شيء لافت، وهو يختلف عن تربية كثير من أبناء الأثرياء الجدد في مصر. فلقد كان مصروفه وهو طفل 15 قرشاً في الأسبوع، بواقع قرشين تقريباً كلّ يوم. وكان بمقدور أسرته الثريّة أن تعطيه عدّة جنيهات في اليوم الواحد
الطبّ والخير
تخرّج الدكتور رؤوف غبور في كليّة الطب جامعة عين شمس عام 1976، وكان يواصل رحلة المال مع رحلة الطبّ، إذْ وصلت ثروته وقت تخرّجه في كليّة الطب نحو نصف مليون جنيه.
في أثناء حرب 1973، كان رؤوف غبور طالباً في كليّة الطب. وقد قامت عائلته بمساعدة الدولة في الحصول على العملة الصعبة قبل الحرب، وتطوّع رؤوف في المستشفيات العسكرية لرعاية مصابي الحرب.
أدرك طالب الطبّ أنّه لن يستطيع العمل في مهنته، فقد فَقَد وعيه حين شاهد الحالات الأكثر خطورة، وكان قراره بعد التخرّج هو العمل بالصناعة والتجارة.
وهكذا ردّت الجميلَ للوطن في حرب 1973 العائلةُ التي استفادت من خروج شركات الأجانب من مصر، وقيام الرئيس عبد الناصر بتمصير الشركات في أعقاب العدوان الثلاثي في عام 1956، وواصل رؤوف مع زوجته أعمال الخير بعد الحرب.
دعم رؤوف غبور وزوجته النبيلة عُلا غبور العمل الخيري في مصر، ويروي رؤوف أنّ زوجته طلبت منه بعد الزواج أن ينظّم رحلات للأيتام والفقراء في حافلات الشركة في أيّام الإجازات، وأنّها في عيد ميلادها طلبت منه أن تكون هديّتها سيارتَيْ إسعاف مجهّزتين تهديهما لأحد المستشفيات، وقالت له: “أنا لا أريد ساعة ثمينة، ولا عقداً من الألماس، فعمل الخير أهمّ من ذلك كلّه”.
إدارة الفشل
انهار رؤوف غبور تماماً، ثمّ عاد من جديد. أفلس الملياردير ثمّ عاد مليارديراً. إنّه نموذج لسحق اليأس وهزيمة الهزيمة.
في عام 1997 خسر غبور 2.5 مليار جنيه بسبب أزمة السياحة والاستثمار التي أعقبت الحادث المروّع، الذي قتل فيه الإرهابيون عدداً من السيّاح الأوروبيين في المناطق الأثرية بالأقصر، ومثّل صدمةً لمصر والعالم. وبعد سنوات قليلة خسر غبور كلّ أمواله، ثمّ أصبح مديناً بأكثر من 1.5 مليار جنيه!
يتحدّث غبور في مذكّراته التي صدرت عن الدار المصرية اللبنانية بعنوان “خبرات ووصايا” عن عدم يأسه أو انهياره النفسي، أو الاستماع لنصائح من حوله بالهروب إلى بريطانيا، بل قرّر مواصلة العمل، والبحث عن أمل.
أعاد رؤوف غبور التفاوض مع البنوك، وواصل العمل بعد جدولة الديون، وبدأ من تحت الصفر بمليار ونصف مليار جنيه ديناً، ثمّ صعد نحو ثلاثين ملياراً قبل رحيله عام 2022.
كان رؤوف غبور طالباً في كليّة الطب. وقد قامت عائلته بمساعدة الدولة في الحصول على العملة الصعبة قبل الحرب، وتطوّع رؤوف في المستشفيات العسكرية لرعاية مصابي الحرب
آراء في الاقتصاد
في مذكّراته أبدى غبور رأيه في عدد من القضايا الاقتصادية، ومن هذه الآراء:
1- يجب على الدولة أن لا تنافس القطاع الخاص، وإلاّ فسوف يفشل ذلك القطاع، وهو ما سيؤدّي إلى الكساد.
2- مشكلة مصر في غياب الفنّيين لا المهندسين، ومن الواجب أن تولي مصر اهتماماً كبيراً بالمدارس الفنّية الصناعية.
3- معظم الشركات الخاصة المصرية لا ترقى إلى المستويات العالمية، وما يتمتّع منها بمستوى عالمي لا يتجاوز عددها 10. ويجب تطوير الشركات باتجاه التنظيم الحديث، والشفافية، والحوكمة.
4- من الخطأ أن يعمل رجال الأعمال بالسياسة. يقول رؤوف: “أدليتُ بدلوي في السياسة، وقد خرجتُ منها سريعاً، وبلا رجعة. لم أندم على التجربة، لكنّني لا أنصح رجال الأعمال الناجحين بالعمل بالسياسة، لأنّني لم أربح من ورائها أيّ شيء”.
ابنة زوجة صدّام حسين
يروي الملياردير المصري رؤوف غبور في مذكّراته قصصاً مهمّة تخصّ العراق وإيران. كان غبور قد عمل مع العراق في السنوات الأربع الأخيرة من حكم صدّام حسين، وأبرم عقوداً مع الحكومة في إطار “النفط مقابل الغذاء”.
كان وزير التجارة العراقي محمد مهدي صالح قد زار مصانع غبور، وعلى إثر الزيارة باع الأخير العراق بضائع بـ250 مليون دولار في عام واحد. ولمّا كان عديّ صدّام حسين مسؤولاً عن استيراد شاحنات المرسيدس، وكان غبور وكيلاً لشركة فولفو المنافسة التقليدية لمرسيدس، كان من الصعب الاستمرار، لكنّ تحالف غبور مع ابن الزوجة الثانية لصدّام حسين من زواجها الأوّل، الذي يبلغ هو وعديّ العمر نفسه، قد ساعد في منع عديّ من تعطيل تعاقدات غبور، بعد أن لم يستجب صدام لشكوى عديّ.
في عام 2002 توقّفت الأمم المتحدة عن تمويل برنامج النفط مقابل الغذاء، فقال الوزير العراقي محمد مهدي صالح لغبور: سنعطيك نفطاً مقابل البضائع. قال غبور: وماذا سأفعل به. قال وزير النفط له: تبيعه لإيران. يمكنك بيعه بالتهريب. قال غبور: ولمن أبيع في إيران؟ قال الوزير: لأولاد الملالي.
يقول غبور في مذكّراته: كان أبناء القيادات الإيرانية ورجال الدين يعملون في تهريب النفط، وجنوا ثروات طائلة، لكنّني رفضت القيام بذلك.
قائمة المطلوبين الـ52
بترتيب من سفير العراق في القاهرة نبيل نجم، زار غبور نائب الرئيس العراقي طه ياسين رمضان في قصر على نهر دجلة. قال له رمضان: “نريد عقد اتفاقيات تجارية مع أميركا بـ20 مليار دولار، وهم الذين يختارون المجالات التي يريدونها. نحن لسنا في حالة عداء مع أميركا، وأنت يا سيّد رؤوف ستكون الوسيط في هذه الصفقة الكبيرة”.
عاد غبور إلى القاهرة، واتّصل بالسفير الأميركي ديفيد والش وأبلغه الرسالة، فقال السفير: “لا أحتاج إلى العودة إلى واشنطن للحصول على ردّ، لقد حُسم الأمر، لدينا قائمة بـ52 شخصية من قيادات الصفّ الأوّل في بغداد. نريد أن يتركوا الحكم والعراق فوراً، ولن نلاحقهم أو نحاكمهم، نحن لا نريد أموالهم ولا بترولهم، نريدهم خارج العراق فوراً”.
يواصل غبور: “اضطرب الوزير محمد مهدي صالح حين أخبرته بهذا الردّ، وقال: الأميركيون جهلاء، العراق لا يستطيع السيطرة عليه سوى شخص مثل صدّام. سيتحوّل العراق إلى مستنقع للإرهاب، فالجميع عندنا لديهم سلاح وميليشيات، وسوف تنتشر الجماعات المتطرّفة في كلّ مكان لو قاموا بغزو العراق”.
إقرأ أيضاً: الملالي في القفص أخيراً
أميركا.. ما في الخفاء وما في العلن
قال لي الوزير محمد سعيد الصحّاف في لقائنا عام 2003: “إنّ خطأنا الكبير يكمن في أنّنا كنّا نهين أميركا في العلن ونتوسّل في الخفاء، والأنسب مع أميركا هو العكس: الدبلوماسية في العلن، والتفاوض القوي في الخفاء، ولو كنّا فعلنا ذلك لربّما تغيّر تاريخ الشرق الأوسط”.
* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.
له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.