لم يحِن الوقت لدى الموارنة بعد لـ”تنقية الذاكرة”، كما ورد في الإرشاد الرسولي. طيّ صفحة الماضي كان هذراً مُقيماً في اتّفاق معراب. الأسوأ أنّ الكنيسة جمعت 4 أحزاب وتيّارات اختصرت بهم “الحياة السياسية” للموارنة وأقصت العائلات السياسية. الحديث عنها ليس عن إقطاعيات. تسبّب هذا بصراع مريع لجهة إلغاء كلّ العائلات والشخصيات لصالح رباعي تحت عنوان “الرئيس القويّ”. لم يجلب هذا العنوان للبنان والموارنة غير الأهوال واستعداء كلّ آخر. العداوة التي صاحبت “قوّة الرئيس” كاسرت كلّ آخر وعلى مساحة لبنان. الأكثر رداءةً أنّها راحت تضرب الموارنة جميعهم بلا استثناء. والأسوأ كان في تقسيم أنفسهم بين “فسطاطين”: واحد للأبطال وآخر للخونة.
فسطاطان الحروب
من ضمن ما نسيه المسيحيون، والموارنة على وجه الخصوص، هو ما جاء في رسالة بطاركة الشرق الأولى من أنّ “المسيحيين في الشرق هم جزء لا ينفصل عن الهويّة الحضارية للمسلمين، كما أنّ المسلمين في الشرق هم جزء لا ينفصل عن الهويّة الحضارية للمسيحيين، وأنّنا من هذا المنطلق مسؤولون بعضنا عن بعض أمام الله والتاريخ”.
على العكس من ذلك ذهب الموارنة وسواهم نحو حروب لا هوادة فيها مع ذواتهم ومع الآخرين.
الوقائع الصعبة التي آل إليها لبنان تضع الموارنة أمام أسئلة جديدة. الكلام عن “الحداثة” و”العصرنة” لم يعد يجدي نفعاً
الحرب الأهليّة المُلبننة وما تلاها من سلم أهليّ مُسلّح قطعا مع ماضيهم وصلتهم بالحداثة. صارت علاقاتهم من طبيعة ثأرية موصولة بمواضي الحرب وكراهياتها التي ارتفعت أسواراً بين الكلّ، وضدّ الجميع. يتبدّى ذلك أكثر فأكثر مع كلّ استحقاق له علاقة بمنصب من مراكز الدولة. المعارك الضارية في هذا الشأن تظهر بوضوح نادر في التنافس على موقع رئاسة الجمهورية، ويليه ما يليه في سائر المناصب.
نهاية مقولة بلد الأقلّيّات
أهميّة الموارنة في تاريخ البلد، التي تتجلّى في تأسيس لبنان الكبير، أنّهم ابتكروا دوراً نادراً لهم: ربط لبنان بالحداثة والمعاصرة. وعلى معنى أدقّ: كانوا الممرّ نحو الغرب ذهاباً وإياباً، مقابل الضمانات العربية التي وفّرها السُّنّة. حصل هذا قبل أن تتصدّر “الشيعية السياسية” دور “المقرّر” لمكانة لبنان الجيوبوليتيكية، إذ ضمنت الترسيم البحري وجعلت من ذاتها حارسةً لـ”بوّابة” سوريا التي لطالما أقلقها النظام في دمشق باعتباره “الخاصرة الرخوة”.
صار لزاماً على الموارنة فهمُ أنّ فكرة لبنان الملجأ لأقلّيات المنطقة قد سقطت. وهذا يعني من بين ما يعني أنّ مشروع الموارنة “الطائفة المميّزة” سقط. الجديد هو لبنان العيش المشترك، حسب اتفاق الطائف. هذا معنى لبنان. من يريد العكس يصير من الضروريّ أن يعلن جموحه السياسي في لحظة الانسداد الراهنة كما هو الحال الآن.
لو انكبّ الموارنة على مراجعة ما صدر عن “الكنيسة والسياسة” عمّن “قاتلوا وقتلوا وتقاتلوا”، وما كتبه المونسنيور ميشال الحايك يوم “طُلب منه بإلحاح” رأي في دورهم، لكان حالهم الآن أفضل بكثير. أمر “المارونية السياسية” بمعناها القديم ينتمي إلى تاريخ مضى. ما صارت إليه هذه هو خليط من الحروب والثارات، وتاريخها من تاريخ الحرب عام 1975.
“المارونية السياسية” التي كانت تعتبر لبنان ضمانة لا امتيازاً، وبمعزل عن صواب هذه أو تلك، استبدلت بـ “مارونيّات سياسية” متعدّدة ما عاد من مشترك بينها غير الصراع على سدّة الرئاسة وبأيّ شرط من الشروط.
ضبّاط البكالوريا
لا تريد “المارونية السياسية” الانتباه إلى أنّها لم تنتج منذ عام 1998 غير قادة جيش. أتحفتنا بثلاثة ضبّاط علاقتهم بالفهم السياسي مبتورة ومقصورة على نيل البكالوريا. أوّلهم إميل لحّود الذي جاء حاملاً كراهية غير مفهومة ومُسبقة لـ”أهل السُّنّة”. أمّا ميشال سليمان الذي رعى “غزوة 7 أيار” ودخل بعبدا بثلاثيّة “الجيش والشعب والمقاومة”، فصمّ آذان اللبنانيين بـ”إعلان بعبدا”.
أهميّة الموارنة في تاريخ البلد، التي تتجلّى في تأسيس لبنان الكبير، أنّهم ابتكروا دوراً نادراً لهم: ربط لبنان بالحداثة والمعاصرة
أمّا درّة التاج ميشال عون فقد ضربه الحنين إلى “محور تحالف الأقلّيات” الذي اشتقّ الطريق إليه بـ “حرب الإلغاء”، وأوصلته إلى بعبدا “فوهة بندقية المقاومة الإسلامية”، على ما قال النائب السابق نوّاف الموسوي.
انضمّ عون أو سابق نفسه إلى المذبحة الحربية، فأدخل الجيش في الحروب الأهليّة. وكسواه من زعماء الموارنة دخل في الحروب المارونية – المارونية. لكن مهلاً، هل من زعيم أو حزب في الوسط الماروني غير “والغ” في دم الآخر؟ ألم يفعل ذلك الكتائب والأحرار، القوّات والعونيون، المردة والقوّات… إلخ؟
المسيحيّون وعنجر
“المسيحية السياسية” نزلت بها “مظلوميّات” كثيرة ما أنزل الله بها من سلطان. كان صائباً الخطرُ الذي استشعرته من منظمة التحرير الفلسطينية وتحالف الحركة الوطنية معها. لكن كان يمكن استدراكه بالاستجابة لنداءات إصلاح النظام السياسي الذي حكم الجمهورية الأولى. دعك من الماضي. الأسوأ ما حلّ بالمسيحيين جرّاء الوصاية السورية على البلد دولةً وأهلاً وجماعات.
في “زمن عنجر” كان المراد تدجين المسيحيين على ما قال كبيرهم البطريرك مار نصر الله بطرس صفير. لكن قبل هذا وذاك، ينبغي التعقّل في مراجعة من استدعى نظام حافظ الأسد قبل أن ينقلب بشير الجميّل ويذهب إلى إسرائيل. أنهكت هذه السيرة المتقلّبة “المارونية السياسية”. وبلغ الإنهاك حدّاً مهولاً. أُتيحت لها فرصة استثنائية مع “قرنة شهوان”. الفرصة الذهبية كانت بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. كانت هذه المقتلة التي نزلت بـ “كبير استثنائي” في تاريخ لبنان كفيلة أن تحرّرهم من الأسر السياسي، وتعيد لهم الدور الذي افتقدوه وراحوا “يبكون كالنساء مُلكاً لم يحافظوا عليه كالرجال”.
دماء الرئيس الحريري التي استُبيحت ظلماً وعدواناً أعادت لهم بعضاً من ألقٍ يومَ هتفوا مع سائر اللبنانيين في “14 آذار” لـ “لبنان أوّلاً”. لكنّ هذا بدّده ميشال عون يوم ذهب إلى حارة حريك مُتّهماً السُّنّة أهل الأمّة والدولة بأنّهم “دواعش”. فكان ما كان من انهيار ما زال في سقوطه المدمّر.
صار لزاماً على الموارنة فهمُ أنّ فكرة لبنان الملجأ لأقلّيات المنطقة قد سقطت. وهذا يعني من بين ما يعني أنّ مشروع الموارنة “الطائفة المميّزة” سقط
دونكيشوتيّة باسيليّة
“الفوقيّة” المُدّعاة اليوم من أهل “المارونية السياسية” وبتعبيراتها الأربعة، التي قَبِل البطريرك مار بشارة بطرس الراعي بحصرها بـ (الكتائب، القوات، العونيون، فرنجية)، صارت كلفتها على المسيحيين عالية جداً. الآخرون من العائلات السياسية المارونية فشلوا في تظهير جديد يُبدع في صياغة دور مع الداخل والخارج، وتحديداً العربي منه. ما لا يريد الموارنة أن يروه هو أنّهم ضمانة للبلد يريدها الجميع في هذا الشرق، وأوّلهم المملكة العربية السعودية. إيران تريدهم غطاءً وأهل ذمّة. وما يصمّون آذانهم عن سماعه هو أنّ الآخرين في بلاد الأرز العليل هم ذوو حيثيّات أهليّة وشعبية وتعليمية وثقافية. عندهم الكثير ليقدّموه، لكن لماذا يطرحوه؟
هذا سؤال جوابه عند “المارونية السياسية”. كان عندهم جان عزيز وإدمون رزق في جزّين، أنطون سعيد في كسروان، الشهيد رينيه معوض، جهاد أزعور والكثير الكثير. لكن لماذا لا يسمعون؟
من هذه المسيحية كان أوّل بطريرك يزور السعودية. وبدلاً من أن يواظب على تنمية العلاقة مع أهل الأمّة، فقد انكفأ. صارت الدول العربية تستقبل رأس الكنيسة الكاثوليكية حتى من دون بطريرك أنطاكية وسائر المشرق. هذه نكبة على الموارنة أن يستدركوها. عكس ذلك يعني أنّه لم يبقَ لديهم غير جبران باسيل وحروبه الدونكيشوتية التي لا تنتهي. وهو لا يباشر السياسة من موقع العارف بحساسيّة الصيغة اللبنانية، بل يدخلها من باب التخويف والتحريض على الجميع وضدّ الجميع.
إقرأ أيضاً: النصاب السياسيّ والنصاب الوطنيّ.. أين أهل السُنّة؟!
الوقائع الصعبة التي آل إليها لبنان تضع الموارنة أمام أسئلة جديدة. الكلام عن “الحداثة” و”العصرنة” لم يعد يجدي نفعاً. البلد صار أمام واقع جديد وشديد الارتباك. لبنان كلّه بلا بطاقة تعريف. المطلوب بإلحاح: كيف نعالج بالسياسة أمراض الهويّات الضيّقة؟
لمتابعة الكاتب على تويتر: Jezzini_ayman@