يطرح إعلان السلطات الأميركيّة اعتقال أبو عقيلة محمد مسعود المريمي المتّهم بصنع القنبلة التي فجّرت طائرة ركاب أميركية فوق بلدة لوكربي الاسكتلندية، في مثل هذه الأيّام من عام 1988، احتمالاً في غاية الخطورة.
يتمثّل هذا الاحتمال في إمكان إعادة فتح التحقيق في تفجير طائرة “بانام” في الجوّ مع ما يعنيه ذلك من إعادة النظر في تحميل نظام معمّر القذّافي وحده المسؤولية الكاملة عن هذه الجريمة التي ذهب ضحيّتها 270 شخصاً. كان 259 من هؤلاء في الطائرة و11 من سكّان لوكربي التي دمّر الحطام المشتعل للطائرة عدداً من بيوتها.
ليبيّون سلّموا المريمي
اعتُقل أبو عقيلة قبل نحو شهر في داخل لبيبا نتيجة إصدار القضاء الأميركي مذكّرة توقيف في حقّه. سلّمته إحدى الميليشيات إلى مجموعة من العسكريين الأميركيين، من القوات الخاصة، كانت في خمس سيارات مصفّحة. نقلته القوات الأميركيّة إلى خارج ليبيا، وسيمثل قريباً أمام إحدى المحاكم في واشنطن دي. سي. لكنّ مصادر ليبية أخرى تؤكّد أنّ حكومة عبد الحميد الدبيبة المنتهية ولايتها أرسلت قوة اعتقلت أبو عقيلة وسلّمته إلى السلطات الأميركية… في محاولة منها لاسترضاء واشنطن.
يوجد ما يدعم النظرية الليبية القائلة إنّ الاتّهام الموجّه إلى نظام القذافي كان اتّهاماً سياسياً
المهم في الأمر، أنّ مذكّرة التوقيف الأميركية في حقّ أبو عقيلة صدرت في عام 2020. هذا يشير إلى أنّ السلطات الأميركية قرّرت متابعة تحقيقاتها الهادفة إلى كشف ملابسات تفجير لوكربي في حين كانت أعلنت في الماضي ختم التحقيق وحصر المسؤولية بنظام القذّافي. معروف أنّ تسويةً تمّت في 2003 بين الزعيم الليبي الراحل والحكومة الأميركية أدّت إلى رفع العقوبات عن ليبيا والاكتفاء بمحاكمة ضابط في جهاز الاستخبارات هو عبد الباسط المقرحي في اسكتلندا وإصدار حكم بسجنه.
كانت طائرة “بانام” في رحلة من فرانكفورت إلى ديترويت عبر لندن ونيويورك عندما فُجّرت بُعيد إقلاعها من لندن. وأثبتت التحقيقات في حينه أنّ الحقيبة التي انفجرت حُمّلت في فرانكفورت بعد وصولها من مطار لافاليتا في مالطا.
الصفقة الأميركيّة ـ الليبيّة
بعد سنوات طويلة من العقوبات على ليبيا شملت حصاراً جوّيّاً لها، توصّل القذافي إلى صفقة مع الجانب الأميركي دفع بموجبها 2.7 مليار دولار تعويضاً إلى ذوي الضحايا. لم يخفِ المسؤولون الليبيون أيام عهد القذافي، ومن بينهم مدير المخابرات موسى كوسة، أنّ ليبيا ليست الجهة الوحيدة المسؤولة عن التفجير. كان هؤلاء يصرّون على أنّ القذافي وافق أخيراً على دفع المبلغ المطلوب بعد إقناعه بأنّ “هذا المبلغ لا يساوي شيئاً مقارنة بالأضرار المالية والاقتصاديّة التي تسبّب بها الحصار الأميركي”.
يوجد ما يدعم النظرية الليبية القائلة إنّ الاتّهام الموجّه إلى نظام القذافي كان اتّهاماً سياسياً. بين ما يدعم هذه النظرية أنّ مجموعة من “الجبهة الشعبيّة – القيادة العامة” التي أسّسها الراحل أحمد جبريل المعروف بعلاقته الوثيقة بالنظام السوري والأجهزة الإيرانية، اعتُقلت في فرانكفورت قبل نحو ثلاثة أسابيع من تفجير لوكربي. كان مع هذه المجموعة جهاز راديو ترانزيستور يمكن حشوه بموادّ متفجّرة على أن يحصل الانفجار بعد وصول الطائرة إلى ارتفاع معيّن. عندما سئل مسؤول أمني فلسطيني عن هذه المجموعة، كان جوابه أنّ على رأسها شخصاً اسمه حافظ دلقموني يُعتبر من أهمّ الخبراء العرب في مجال المتفجّرات، وهو قريب جدّاً من أحمد جبريل.
سوريا وإيران في قفص الاتّهام
مع حصول تفجير لوكربي، غابت الأخبار عمّا حلّ بهذه المجموعة. لكنّ الأكيد أنّ النظام السوري، الذي ربطته علاقة وثيقة بجبريل وتنظيمه الفلسطيني، شعر بارتياح كبير عندما تبلّغ أنّ التهمة محصورة بنظام القذّافي. هذا ما أكّده دبلوماسي أميركي كان معتمَداً في دمشق عندما قال: “اتّصلت بفاروق الشرع وزير الخارجية لأنقل إليه فحوى القرار الأميركي بعدم توجيه أيّ اتّهامات لسوريا، وشعرت بأنّ الشرع اعتبر يوم تبلّغه هذا الخبر أسعد يوم في حياته“.
هل تغيّرت الظروف التي كانت سائدة في مرحلة ما بعد تفجير لوكربي، وبات مطلوباً أميركياً البحث عن الحقيقة انطلاقاً من أنّ تفجير طائرة “بانام” كان عملية مشتركة إيرانية – سورية – ليبية تولّت تنفيذها “الجبهة الشعبيّة – القيادة العامّة” بصفتها تنظيماً فلسطينياً متخصّصاً بعمليّات التفجير؟
لا يمكن الفصل بين لوكربي والمحور الإيراني – الليبي الذي كان قائماً في تلك المرحلة من جهة، ورغبة إيران وليبيا في الانتقام من أميركا من جهة أخرى. تعتبر إيران أميركا مسؤولة عن إسقاط طائرة ركّاب تابعة لها فوق الخليج بصاروخ أُطلق من البارجة الأميركية “فينسنز”. كان ذلك في آب 1988. قضى 280 شخصاً كانوا في الطائرة. كان إسقاط الطائرة من بين الأسباب التي جعلت آية الله الخميني يوقف الحرب مع العراق و”يتجرّع كأس السمّ”، على حدّ تعبيره. أمّا ليبيا القذّافي التي كانت تسمّي نفسها “الجماهيريّة”، فكانت في حاجة بدورها إلى الانتقام ردّاً على قصف الأميركيين طرابلس وبيت الزعيم الليبي نفسه في أيّار من عام 1986.
يظلّ السؤال الذي سيطرح نفسه بعد اعتقال أبو عاقلة محمد مسعود المريمي: لماذا كلّ هذا الاهتمام الأميركي بملاحقته تمهيداً لمحاكمته؟ ألأنّ قضيّة لوكربي لم تمُت بعد وفصولاً جديدة منها ستُكشف قريباً؟
إقرأ أيضاً: “الاهتزاز” الإيراني.. هل آن أوان رحيل الأسد؟
القلق الليبيّ
في كلّ الأحوال، تبدو السلطات الليبية نفسها قلقة. فقد عبّر مستشار الأمن القومي إبراهيم أبوشناف، في بيان، عن استغرابه محاكمة أبو عقيلة في أميركا في قضيّة لوكربي التي تمّت تسويتها بموجب اتفاق وُقّع في حزيران من عام 2006 ينصّ على أنّه “لا يجوز بعد دفع الأموال والتعويضات، فتح أيّ مطالبات جديدة عن أيّ أفعال ارتُكبت من أحد الطرفين بحقّ الآخر قبل تاريخ الاتفاق”. وأضاف أنّ الولايات المتحدة التزمت “توفير الحصانة السيادية والدبلوماسية لليبيا، وألّا يتسلّم أهالي الضحايا أيّ تعويضات من الصندوق المشترك المخصّص لهذا الغرض إلا بعد توفير هذه الحصانة”.
ليس معروفاً عن أيّ حصانة يتكلّم المسؤول الليبي الذي لا يدري أنّ لكلّ مرحلة ظروفها السياسيّة. في غياب القذّافي، بات مطلوباً البحث عن الحقيقة، حقيقة تفجير لوكربي.
لمتابعة الكاتب على تويتر: khairallahkhai5@