لم يحرّك لبنان ساكناً بعد توقيع اتّفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل. ويبدو أنّ الترسيم، كما فهمته الدولة اللبنانية، لا يعدو كونه مسألة عقارية سُوِّيت بوساطة أميركية، وبعدها يتوقّف كلّ شيء ليمعن سياسيّو لبنان في البحث عن جنس الملائكة في جولات خلافية، ظاهرها دستوري وجوهرها تنازع على السلطة والمكاسب وإلزام اللبنانيين بخيارات لا تشبههم.
أمّا إسرائيل فتمضي في تطبيق مضمون اتّفاق الترسيم، وفي تثبيت بنوده واستثمار ثغراته بإنجاز سلسلة من اتفاقات وشراكات وضعتها في خدمة اقتصادها ودورها الإقليمي المتنامي. وبالتزامن مع ذلك تندفع كلّ من دولتَيْ الإمارات العربية المتّحدة وقطر إلى تطوير استثماراتهما في حقول الغاز الإسرائيلي، لتعزيز حضورهما الاقتصادي والدبلوماسي في شرق المتوسط، حيث تتقاطع ملفّات دولية ساخنة عدّة.
يبدو أنّ الترسيم، كما فهمته الدولة اللبنانية، لا يعدو كونه مسألة عقارية سُوِّيت بوساطة أميركية، وبعدها يتوقّف كلّ شيء ليمعن سياسيّو لبنان في البحث عن جنس الملائكة في جولات خلافية
أوّلاً: إسرائيل تستفيد من الاتّفاق
ما كاد حبر الاتّفاق أن يجفّ، وبعد أقلّ من شهر على توقيعه، وتحديداً في 22 تشرين الثاني 2022، وافقت إسرائيل على مشاركة “كونسورتيوم الطاقة القطري” في التنقيب عن الغاز الطبيعي في “مكامن قانا – صيدا” Kana Sidon undersea reservoir))، حيث حصريّة الحقّ في التنقيب في هذه الرقعة المسمّاة البلوك رقم 9 هي لشركة “Total Energies” الفرنسية وشركة “Eni” الإيطالية. وقد سبق ذلك في 15 من الشهر عينه توقيع اتّفاقية بين إسرائيل والشركتَيْن المذكورتين للمباشرة بأعمال التنقيب في المياه الإسرائيلية، نظراً إلى احتمال تمدّد المكامن في البلوك المذكور إلى جنوب الخطّ 23.
لقد تمّ كلّ ذلك استناداً إلى ما ورد في نصّ الفقرة “ج” من القسم الثاني من الاتّفاق: “يتفق الطرفان على أنّ الشخصية الاعتبارية ذات الصلة التي تتمتّع بأيّ حقوق لبنانية في التنقيب عن الموارد الهيدروكربونية وتطويرها في البلوك رقم 9 اللبناني (مشغّل البلوك رقم 9)…. ألا تكون شركات إسرائيلية أو لبنانية….”، وكذلك إلى ما ورد في الفقرة “هـ” من القسم الثاني: “كما يتفهّم الطرفان أنّه رهناً ببدء الاتّفاقية الماليّة سيقوم مشغّل البلوك رقم 9 المعتمَد من لبنان بتطوير كامل المكمن المحتمل حصريّاً لصالح لبنان…”. تأتي الموافقة الإسرائيلية لقطر في سياق الاستثمار في المكتسبات التي حقّقتها إسرائيل في اتّفاقية ترسيم الحدود البحرية التي وقّعتها مع لبنان في 27 تشرين الأول 2022. هذا ما أكّده بيان وزارة الطاقة الإسرائيلية: “في إطار ترسيم الحدود البحرية مع لبنان ولتأكيد حقوق إسرائيل في مكامن قانا – صيدا، أتى الترخيص لكونسورسيوم قطر للطاقة بالمشاركة”.
ستحصل إسرائيل بموجب هذه الاتّفاقية على 17 في المئة من قيمة مكمن قانا بعدما أكملت شركات الطاقة تقويمها، وسيتمّ وضع خطة اقتصادية تحدّد تفاصيل الاتفاقية مع إسرائيل بعد تحديد المخزون من الغاز الذي يحتويه الحقل. كذلك ستبقى حقوق قطر في الشراكة في حدود 30 في المئة، وفق ما أوردته “وكالة بلومبيرغ” في 30 تشرين الأول عن المفاوضات القطرية مع الشركة الفرنسية.
بهذا يسهل الاستنتاج أنّ الموافقة الإسرائيلية على المشاركة القطرية في التنقيب تسمح للجانب القطري بشراء حقوق التنقيب من الشركة الفرنسية، والمشاركة في عمليات الاستخراج المتوقّعة. والجدير بالذكر أنّ قطر قد أصبحت لاعباً في البحر الأبيض المتوسط، و??لا سيّما بعد حصولها على حصة بنسبة 40 في المئة في حقل اكتشفته شركة “Axon Mobil” في منطقة قبرص البحريّة.
ستحصل إسرائيل بموجب هذه الاتّفاقية على 17 في المئة من قيمة مكمن قانا بعدما أكملت شركات الطاقة تقويمها، وسيتمّ وضع خطة اقتصادية تحدّد تفاصيل الاتفاقية مع إسرائيل بعد تحديد المخزون من الغاز الذي يحتويه الحقل
ثانياً: اندفاعة خليجيّة نحو شرق المتوسّط
في مقابل اندفاعة تل أبيب إلى تثبيت دور إسرائيل الجديد، لا بدّ من التوقّف عند الاندفاعة الخليجية للتوسّع نحو البحر المتوسط لتأكيد الحضور الاقتصادي والأمني في المنطقة التي صارت تحظى بأهميّة دولية وتتقاطع عندها جيوستراتيجيات القوى الكبرى. فليس من قبيل المصادفة أن يلاقي الاهتمام الخليجي المتسارع بالمنطقة الرغبة الإسرائيلية في جذب الاستثمارات وتوسيع أنشطة التنقيب والاستخراج، بالتزامن مع المفاوضات غير المباشرة بين لبنان وإسرائيل، والتي انطلقت مع إعلان “اتّفاق الإطار” في تشرين الأول 2020 بوساطة أميركية، ووصلت إلى خواتيمها في تشرين الأول 2022.
في 26 نيسان 2021 وقّعت شركة “Delek” الإسرائيلية مذكّرة تفاهم مع ذراع الطاقة (Energy Arm) في صندوق الثروة السيادية لدولة الإمارات العربية المتّحدة “Moubadala”، الذي وافق مبدئياً على الاستحواذ على 22 في المئة من ملكيّة الشركة في “Tamar offshore natural gas field”. هذا فيما تستمرّ الشركة بالاستثمار في “حقل غاز ليفياثان” الإسرائيلي الأكبر.
وقد سبق لدولة الإمارات العربية المتّحدة أن أعلنت في آذار 2021 أنّها بصدد إنشاء صندوق بقيمة 10 مليارات دولار للاستثمار في قطاع الطاقة الإسرائيلي وقطاعات استراتيجية أخرى، حيث تمثّل صفقة (Delek) الاتّفاقية التجارية الكبرى بين البلدين منذ تطبيع العلاقات في أيلول 2020 تحت مظلّة الاتّفاق الإبراهيمي، على الرغم من المخاطر السياسية والأمنيّة التي ينطوي عليها أيّ استثمار إماراتي في “حقل تمار”. فالحقل نفسه يقع على بعد 50 ميلاً من ساحل إسرائيل الشمالي، وينقل الغاز إلى “ميناء أشدود” على الشاطئ الجنوبي الذي يقع على بعد أميال قليلة من قطاع غزة الذي تسيطر عليه حركة حماس. هذا فيما تتمّ معالجة الغاز الأوّليّة على منصة في البحر تبعد 13 ميلاً ويمكن رؤيتها من المباني العالية في غزّة وضمن ميل أو اثنين من المياه الفلسطينية.
في السياق نفسه، تحتفظ شركة “Dana Gas” الإماراتية بامتياز في “شمال العريش” قبالة ساحل سيناء المصري المتاخم للمنطقة البحرية الفلسطينية. وعلى الرغم من فشل الحفر الاستكشافي في العثور على الهيدروكربونات خلال عام 2019، لم تتخلَّ الشركة عن الترخيص وما زالت تصرّح أنّ المنطقة تحتوي على احتياطيات كبيرة من الغاز، ولا سيّما بعد توقيع الاتّفاق الإبراهيمي.
إقرأ أيضاً: حوار بيروت في مهبّ لقاءيْ واشنطن وعمّان
قد تكون الاستثمارات القطرية والإماراتية مقدّمة لطموح الدولتين إلى الانضمام، ولو بصفة مراقب، إلى منتدى غاز المتوسط الذي يضمّ ثلاث دول من الاتّحاد الأوروبي (اليونان وقبرص وإيطاليا) ودولتين عربيّتين (مصر والأردن) وإسرائيل والسلطة الفلسطينية، إضافة إلى فرنسا والولايات المتّحدة كمراقبين. لكن إلى جانب هذا الوجه الاستثماري للأنشطة الخليجية في غاز البحر المتوسط، يبدو الهدف الأهمّ لهذه الصفقات هو تحقيق حضور دبلوماسي فاعل لكلّ من الإمارات العربية المتّحدة وقطر. وذلك بالانتقال إلى موقع الحدث والإطلالة عن قرب على الملفّات الجيوسياسية المتفاقمة التي تحظى باهتمام أميركي، ولا سيّما تلك المتّصلة باستقرار الطاقة العالمي والتوتّرات التركية مع قبرص واليونان والتدخّل التركي في الأزمة الليبية.
حتى الآن، قد لا يكون متاحاً للّبنانيين سوى التساؤل: هل يعي ساسة لبنان ماذا يجري حولهم؟ وهل تبقى اتّفاقية ترسيم الحدود البحرية في حدود التسوية العقاريّة؟
* مدير المنتدى الإقليميّ للاستشارات والدراسات