فلنسجّل في المفكّرة: في الخامس من كانون الأول 2022، عقدت حكومة تصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي جلسة اكتمل نصابها بفضل انضمام “الوزير الملك”، وزير الصناعة جورج بوشكيان، بعدما كان مقرَّراً أن يقاطع بصفته وزير حزب الطاشناق حليف “التيار الوطني الحر”، أي عضواً في التكتّل الوزاري الذي يمثّل “التيار” وحلفاءه في الحكومة.
ما نسجّله في مفكّرة هذا اليوم، جرى تسجيل مثيل له في 12 كانون الثاني من عام 2011، عندما استقال وزير ملك آخر هو عدنان السيّد حسين من حكومة الرئيس سعد الحريري فيما كان يستقبله الرئيس باراك أوباما في البيت الأبيض، فدخل الحريري الاجتماع رئيساً للحكومة وخرج منه رئيساً سابقاً للحكومة بعد استقالة أكثر من ثلث أعضاء الحكومة. أمّا الوزير السابق، الذي أسقط حكومة الحريري قبل 11 عاماً، فكان من ضمن ما يُسمّى “حصّة رئيس الجمهورية” ميشال سليمان، لكنّه انتقل فجأة من دون سابق إنذار إلى صفّ الوزراء المستقيلين الذين كانوا ينتمون إلى ثلاثي “التيار الوطني الحر” و”حزب الله” وحركة “أمل”.
إلغاء الهيمنة وتثبيت المشاركة وقرار المناصفة وحكم الجماعة والأكثريّة المركّبة بطلب الثلثين، هذه هي الأسس التي بنى عليها مؤتمر الطائف المؤسّسات وصلاحيّاتها
هل هي قصّة وزير ملك غيَّر مجرى الأحداث في العمل الحكومي في واقعتَيْ عامَيْ 2011 و2022؟
هي كذلك شكلاً، لكنّها في مضمونها أعمق وتعود إلى ثمانينيات القرن الماضي عندما كان الاهتمام منصبّاً داخلياً وإقليمياً ودوليّاً على إيجاد حلّ لأزمة لبنان التي فجّرت حرباً بدأ حريقها عام 1975 وخمدت عام 1989 بولادة اتفاق الطائف. القصّة الحقيقية هي “الثلث المعطّل” الذي أصبح السلاح الفعليّ في توفير الاستقرار السياسي في لبنان أو توتيره منذ أن صار اتفاق الطائف دستوراً عام 1990.
الاتّفاق الثلاثيّ في 1985
في مثل هذا الشهر، أي كانون الأول، وتحديداً في الـ28 منه في عام 1985، رعت دمشق في عهد الرئيس حافظ الأسد ولادة اتفاق اشتهر باسم “الاتّفاق الثلاثي” كان أركانه الثلاثة هم رئيس حركة “أمل” نبيه برّي ورئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي وليد جنبلاط وقائد “القوات اللبنانية” إيلي حبيقة. وكان إلى جانب الأخير أحد قياديّي القوّات اللبنانية أسعد شفتري، الذي كتب عن تلك الحقبة في كتابه “الحقيقة ولو بصوت مرتجف”، الآتي: “لن تكون السلطة التنفيذية بعد ذلك الحين، بيد رئيس الجمهورية. فقد كان المسلمون، خصوصاً السُنّة منهم، قد عانوا الأمرّين من تصرّفات مختلف الرؤساء الموارنة الذين لم ينسّقوا أعمالهم أو قراراتهم مع رؤساء الحكومة السُنّة… فطلب المسلمون عندئذ وضع السلطة التنفيذية بيد رئيس الحكومة. وقد صدمنا هذا الأمر. وبعد الكثير من المشاورات والزيارات المتتالية بين دمشق وبيروت، قرّرنا أخيراً أن تتولّى السلطة التنفيذية بوزرائها جميعهم “مجتمعة”، على ألّا يتمّ البحث في مواضيع وجوديّة أو مهمّة إلّا بموافقة ثلثَيْ أعضائها، الأمر الذي يسهّل التعطيل عند تغيّب الوزراء المسيحيين عن اجتماعاتها”.
عُقِد بعدئذٍ مؤتمر الطائف، الذي وضع رئيس حزب الكتائب جورج سعادة بعد مشاركته فيه كتاباً حمل عنوان “قصّتي مع الطائف”، فكتب يقول: “من هنا على رئيس الجمهورية ألّا يوافق على أيّة تشكيلة حكومية إذا لم يكن مطمئنّاً إلى أعضائها أو على الأقلّ إلى أكثر من ثلث الأعضاء ليؤمّن إلى جانبه ما تعارفنا على تسميته “الثلث المعطّل” الذي له أكثر من تأثير في مجريات الأمور داخل مجلس الوزراء، فالنصاب لا يكتمل إلا بحضور ثلثَيْ أعضاء مجلس الوزراء، والمواضيع الأساسية تتطلّب الموافقة عليها ثلثَيْ مجلس الوزراء، وأخيراً تعتبر الحكومة مستقيلة إذا استقال أكثر من ثلث أعضائها”.
في عام 1990 بدأت مرحلة اتفاق الطائف بعدما صار دستوراً ومرجعاً للحكم. في هذا السياق، يقول الوزير السابق ألبير منصور في كتابه “الانقلاب على الطائف” الذي أورد فيه تجربة الحكم في بداية التسعينيات: “إعطاء الأقلّية “دوراً معطّلاً وحقّ النقض” إنجاز”، مضيفاً: “الحكم الإجرائي يتمّ بأكثرية ثلثَيْ مجلس الوزراء. والحكومة ترحل أو يقف عملها بقرار ثلث أعضائها”، وتابع: “المناصفة على ثلث معطّل هي قاعدة الأكثرية والأقليّة التي رسمها مؤتمر الطائف”. وخلص إلى القول: “إلغاء الهيمنة وتثبيت المشاركة وقرار المناصفة وحكم الجماعة والأكثريّة المركّبة بطلب الثلثين، هذه هي الأسس التي بنى عليها مؤتمر الطائف المؤسّسات وصلاحيّاتها”.
الحكم الإجرائي يتمّ بأكثرية ثلثَيْ مجلس الوزراء. والحكومة ترحل أو يقف عملها بقرار ثلث أعضائها
الرفاعي: الطائف والخديعة
ماذا يقول العلّامة الدستوري والقانوني البارز حسن الرفاعي الذي كان في مؤتمر الطائف وقاطعه في الوقت نفسه؟
في كتاب “حسن الرفاعي حارس الجمهورية” الصادر عام 2018، يقول: “أكثريّة الثلثين ونصاب الثلثين في مجلس الوزراء من الأمور التي لم تطالب بها القوى الإسلامية في أيّ وقت من الأوقات منذ بداية الحرب اللبنانية حتى اجتماعات الطائف. حتى إنّ الرئيسين حسين الحسيني وسليم الحص لم يأتيا على ذكرهما لا من قريب ولا من بعيد في الورقة المسمّاة “مبادئ الوفاق الوطني لحلّ الأزمة اللبنانية” في 2 كانون الثاني 1989، والتي نصّت على التالي: “تُتّخذ المقرّرات في مجلس الوزراء بالتوافق. وعند الضرورة بالأكثريّة المطلقة من أعضاء المجلس”.
تحت عنوان فرعي “وخديعة الثلث المعطّل” كتب الرفاعي: “الترجمة العملية لهذا الأمر هي أنّ استقالة ثلث الوزراء أصبحت بعد الطائف تطيح بالحكومة ورئيسها، في حين أنّ الأمر كانت تلزمه استقالة نصف وزراء الحكومة، وفق نصّ الاتفاق الثلاثي”، الذي حاول النظام السوري فرضه على اللبنانيين.
بالأمس، تكرّر المشهد الذي جرى طبخه منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ جبران باسيل، الذي كان وزير الخارجية في الحكومة التي كان يرأسها سعد الحريري بدءاً من عام 2009 حتى استقالتها عام 2011، استضاف في مكتبه بقصر بسترس الوزراء الذين تقدّموا في بيان مشترك باستقالتهم من حكومة الحريري فأسقطوها بفعل الثلث المعطّل. وقد حاول باسيل نفسه عشيّة جلسة الحكومة الأخيرة، من خلال بيان الوزراء الـ9 الذين يشكّلون هذا الثلث، تكرار التجربة نفسها التي حصلت قبل 11 عاماً. لكن “مش كلّ مرّة بتسلَم الجرّة”. فها هو الوزير الملك بوشكيان ينفصل عن تكتّل “التيار الوطني الحر” تماماً كما فعل نظيره عدنان السيّد حسين حين غادر تكتّل الرئيس ميشال سليمان.
إقرأ أيضاً: جلسة حكومة ميقاتي… ليصدّق عون “نهاية” عهده
إنّها بدعة “الثلث المعطّل” و”خديعتها”، كما قال الرفاعي.
فهل من مبالغة في القول إنّ ما شهدناه بالأمس أظهر أنّ طابخ هذا الثلث، وهو سمّ، آكله؟