غالباً ما تفترض النظرة إلى الطوائف في لبنان أنّهم جماعات منظّمة لكلّ منها بنيتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الخاصّة بها، وأنّ هذه البنى تشمل كلّ أبناء الطائفة. يطمس هذا الاختزال الفوارق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية داخل الطوائف ويصوّر أو يتيح تصوير التنافس أو الصراع بين الطوائف كما لو أنّه صراع بين مجموعات متراصّة اجتماعياً ومُحكَمة التنظيم الداخلي، فيما الواقع عكس ذلك ويحيلنا إلى تاريخيّة تشكيل الطوائف في لبنان ككيانات سياسية تعبّر عن “حقوق” الطوائف كما لو أنّها وحدات اجتماعية منظّمة بحيث إنّه لمجرّد تأمين حقوق أيّ طائفة فإنّ ذلك سيطال كلّ أبنائها.
تشكُّل الطوائف
إذا كان الموارنة أو الدروز، وبدرجة أقلّ الشيعة، بالنظر إلى فوارق التركيبة الاجتماعية بين الجنوب والبقاع، قد انتظموا عبر تاريخهم في بنى اجتماعية ودينية لأنّهم أقلّيّات في كنف الإمبراطورية العثمانية تجمّعت في إطار جغرافي محدّد، فإنّ السُنّة توزّعوا في المدن الكبيرة والمتفرّقة جغرافياً بحيث كان لكلّ مدينة تنظيمها الاجتماعي الخاصّ بمنأى عن المدن الأخرى والأرياف البعيدة.
والحال هذه، فقد شكّل تأسيس لبنان الكبير تحوّلاً كبيراً في بنى الطوائف اللبنانية، وتحديداً المسيحيين، بحيث تزعزعت منظومتهم الاجتماعية القديمة بسبب تقديمهم انتماءهم الرمزي والكياني إلى الدولة والجمهورية على انتمائهم الأوّليّ إلى الجبل وإن بتردّد دائم. وقد دفعهم توسّعهم الجغرافي السابق على قيام دولة لبنان الكبير أكثر فأكثر في هذا الاتجاه.
أظهرت فيضانات جونية أنّ اللامركزية التي اعتبروا أخيراً أنّها الحلّ فات الوقت الذي يمكن أن تكون فيه هي الحلّ
مسارات السُنّة.. وأطوار الشيعيّة السياسيّة السريعة
دفعت دولة لبنان الكبير السُنّة ذوي التنظيم المدني إلى التمأسس كطائفة عابرة للمدن. ولعلّ تأسيس دار الفتوى كان أبرز نتائج هذا التحوُّل. لكنّ هذه الوحدة الدينية بين المدن السنّية لم تنسحب إلى المجال السياسي، بحيث ظلّ التنافس والفوارق السياسية قائمة بين بيروت وطرابلس إلى أن ألغاها الرئيس الشهيد رفيق الحريري إلى حدّ بعيد في حياته، لكن أكثر بموته.
هكذا تخلق الصدمات التاريخية تحوّلات ومتغيّرات داخل الطوائف كبنى اجتماعية وسياسية. فالحرب كانت صدمة كبرى بالنسبة إلى المسيحيين، وشكّل اغتيال رفيق الحريري صدمة للسُنّة. وفي هذا الوقت كان حزب الله يبني مساره الخاصّ، فما كادت الطوائف الأخرى تصحو من صدماتها حتى رأت أنّ الشيعة قد تحوّلوا تحوّلاً جذرياً وبسرعة فائقة بحيث بدا أنّ الوتيرة التاريخية لتلك الطوائف أبطأ بكثير من وتيرة الشيعية الجديدة. وهذا عائد بالدرجة الأولى إلى البنية الأيديولوجيّة الحزبية المستورَدة التي تتلقّى زخماً متواصلاً من مصدرها، وهو ما جعل لشيعة الحزب الذين يشكّلون الغالبية الشيعية تاريخاً خاصّاً بمعزل عن بقيّة الطوائف.
المسيحيّون.. عودة إلى الأصل
بيد أنّ الحرب أعادت إلى حدّ بعيد المسيحيين إلى الجبل ليس رمزياً وحسب، بل وجغرافياً، إذ دفعتهم حروب المناطق والتهجير وغضب الطوائف وضيق بعضها بالبعض الآخر إلى العودة إلى الجبل، وبالتحديد إلى جبيل وكسروان، وأصبحت جونية من جديد العاصمة الرمزية للمسيحيين، والموارنة تحديداً. لكنّهم عادوا بالطبع من دون تنظيمهم الاجتماعي القديم، أي من دون إعادة إنتاج أنفسهم كطائفة كما كانوا قبل قيام لبنان الكبير.
ليس قليل الدلالة في هذا السياق أنّ ميشال عون ثمّ سمير جعجع قدِما أيضاً إلى كسروان بوصفها “مركز” الموارنة. فاستحالة إعادة إنتاج الموارنة كطائفة لها هيكلية دينية واجتماعية مُحكَمة لم تحُل دون إعادة انتاجهم كطائفة سياسية، وهو ما فعله عون بالدرجة الأولى. لكنّ المشكلة الأساسية هنا ليست في تجديد المؤسسة السياسية المارونية، وقد سبقتهم الطوائف الأخرى إلى تجديد مؤسّساتها السياسية بعد الحرب أو إعادة تدويرها، بل في كيفية تجديد الموارنة لخطابهم وخياراتهم.
بعدما تحوّل الموارنة نحو الجمهورية والدولة انسيابياً و”طبيعياً”، وإن جمعوا على نحو هجين بين منظومة القيم الجبلية وتلك التي تمثّلها الدولة والجمهورية، كانت “عودتهم” إلى الدولة مع ميشال عون صراعيّة وقسريّة وأشبه بالغزو. وهو ما لا يتحمّله عون كلّه بالنظر إلى الصراع الطائفي القائم على الدولة، لكنّ “الجنرال” دفع بالصراع إلى أقصاه وأخذ معه إليه كلّ المؤسسة السياسية المارونية، وإن حاول بعض أركانها التمايز عنه، وخصوصاً لناحية تحالفه مع حزب الله ومحور الممانعة.
مسار المسيحيين هو الأكثر دراماتيكية بالنظر إلى التحوّلات النوعية التي راوحت بين المناحي التقدّمية وتلك الرجعية
غير أنّ إعلاء مرتبة الصراع على “الحقوق” إلى أقصى حدّ أخفى تتاقضات الديناميكية الاجتماعية داخل الطائفة وأخرجها من دائرة الضوء والنقاش من دون أن يلغيها، بمعنى أنّ الصراع على “الحقوق” بإزاء الطوائف الأخرى حوّل المسيحيين، وبالأخصّ الموارنة، إلى أداة سياسية لأحزابهم البارزة، ولا سيّما التيار الوطني الحرّ. وهو ما فاقم التفاوت الاجتماعي على أساس طبقي بينهم، بحيث إنّ هذا الصراع بين الطوائف خلق ديناميكية اجتماعية – اقتصادية جديدة داخل الطائفة لأنّه أتاح فرصاً اقتصادية للدائرة الحزبية الضيّقة من دون الطائفة كمجموعة اجتماعية، أو بعبارات أخرى فإنّ منظومة القيّم الطائفية تقوم على أساساً على الولاء لفكرة الطائفة عن نفسها بإزاء الطوائف الأخرى، وهو ما يتيح لـ”الولائيين” توسيع مصالحهم ولو ضدّ مصلحة أبناء طائفتهم.
ارتدادات في الدولة وعنها
هذا جعل “الغزو” في اتجاهين: اتجاه الدولة واتجاه الجغرافيا السياسية. فقد ارتدّ النفوذ السياسي داخل الدولة نفوذاً سياسياً واقتصادياً داخل الطائفة وجغرافياتها. بالتالي فإن الارتداد العشوائي إلى الجبل، وتحديداً إلى كسروان وجبيل، خلال الحرب، والذي أخذ بفوضاه شكل الغزو، فاقمته موجة الغزو الثانية بفعل توسّع نفوذ وإمكانات “الطبقة الجديدة” المستفيدة من “الصحوة السياسية” للمسيحيين التي جسّدها ميشال عون.
هنا يصبح شعار محاربة الفساد على صعيد الدولة ذا وظيفة خفيّة، إذ يطمس ديناميّات الفساد داخل الجغرافيا الطائفية عبر البلديات وسائر الدوائر الأهليّة التي تتيح كلّ أشكال صرف النفوذ والتعدّيات العمرانية والبيئية، أو بالحدّ الأدنى فإنّ هذا الشعار، الذي يشكّل كما الفساد نفسه امتداداً للصراع الطائفي، الوعي الجمعي للمجموعات الطائفية يركّز على تناقضاتها مع الطوائف الأخرى أكثر منه على تناقضاتها الداخلية، وذلك في ديناميكية تماثلية تأخذ في الغالب أشكالاً دراماتيكية لأنّها تستخدم كلّ الوسائل الممكنة لتوظيف الإمكانات الطائفية في المشروع السياسي الحزبي للفوز بالمعركة مع الطوائف الأخرى، وهو ما ينعكس توسّعاً في نفوذ النطاق الحزبي الضيّق على حساب الطائفة ككلّ.
يدفع كلّ ذلك إلى القول إنّ الفيضانات في كسروان وجبيل أسبابها سياسية-اجتماعية، إذ هي نتيجة للمسار التاريخي للمسيحيين، أقلّه منذ الحرب. لذا غرق جونية وجبيل هو واقعياً ورمزياً غرقٌ سياسي واجتماعي للمسيحيين، وبالتحديد الموارنة.
ليست هذه المشكلة مارونيّة بحتة، بل هي مشكلة لبنانية عامّة أو هي مشكلة لبنان كدولة ووطن باعتبار أنّ مشكلة أيّ طائفة لبنانية ليست ذات عوامل ذاتية وحسب، بل هي نتيجة تقاطع أزمات الطوائف جميعاً.
مسار المسيحيّين الدراماتيكيّ
لكنّ مسار المسيحيين هو الأكثر دراماتيكية بالنظر إلى التحوّلات النوعية التي راوحت بين المناحي التقدّمية وتلك الرجعية. فالأشكال السياسية والاجتماعية التي يتّخذها ارتداد الموارنة عن لبنان الكبير كفكرة وكواقع تعبّر كلّها عن الدائرة المأزقية التي يدورون فيها.
فهم ما إن يظنّون أنّهم وجدوا الحلّ لمشكلتهم حتّى يكتشفوا أنّ هذا الحلّ ذاته هو أزمة. هكذا أظهرت فيضانات جونية أنّ اللامركزية التي اعتبروا أخيراً أنّها الحلّ فات الوقت الذي يمكن أن تكون فيه هي الحلّ. وأمّا الرئيس القويّ فلم يستحِل مشكلة لهم وحسب، بل وللبلد بأسره، وأمّا سقوطه فلن يُفسَّر في نهاية الأمر بوصفه عودة مسيحية إلى الصواب، بل بوصفه تقدّماً للطوائف الأخرى في النظام السياسي، وهو ما سيدفع المسيحيين مرّة جديدة إلى الجنون في حال كان هذا الجنون ما يزال ممكناً.
إقرأ أيضاً: المعارضة شريكة الموالاة في “الكوميديا السوداء”
لقد تأخّرت عودة المسيحيين إلى الدولة والجمهورية كثيراً حتّى إنّ الدولة والجمهورية نفسيهما لم تُفقدا في لبنان وحسب، بل في المشرق العربي كلّه. فهم كانوا أوّل المنتمين إلى هاتين الفكرتين، لكن سرعان ما انقلبوا أو دُفعوا إلى الانقلاب عليهما. وبعدما كانوا رسلَ الجمهورية أصبحوا دلالة استحالتها، وهذا مأزقهم الكبير. إنّ محاولات الطوائف المتكرّرة لإعادة إنتاج أنفسها هي الدليلُ على استحالة إعادة إنتاج الجمهورية التي ظنّ المسيحيون باكراً جدّاً أنّها الحلّ، لكن سرعان ما تحوّلت إلى مشكلة بالنسبة إليهم. وإذا كانت العودة إلى الوراء مستحيلة فإنّ التقدّم إلى الأمام لا يبدو ممكناً أو بالحدّ الأدنى سهلاً، وهو لا يتوقّف على المسيحيين لوحدهم، وإن كانوا يمعنون في تغييب شروطه!