منذ فشلت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي المستقيلة في نقل مباريات “مونديال قطر”، رحت أقصد مقهى بيروتيّاً قديماً كنت أتردّد إليه منذ مدّة، ويجمع ثُلّة من أبناء الأحياء المجاورة. أقصده علّي أنعم بمشاهدة واحدة من المباريات عبر إحدى المحطّات الناطقة باللغة الأجنبية (كرشوني ما منفهم شي) يضبطها لنا عامل الـ”سطالاي” (الستلايت بلغة أمّ زهير) من باب الزعبرة و”دفع البلا”.
كان يقوم بذلك كلّ يوم، لكنّه تمنّع وصار ينقل لنا ما يحلو له من مباريات، وذلك بعد خسارة منتخبه المفضّل أمام المنتخب السعودي البطل (أرجنتينيّ بلا ضمير).
قبل أيّام حزمت أموري، وحملت الهاتف الجوّال والتبكات ونبريش الأرجيلة، وتوجّهت إلى ذاك المقهى. قلت في نفسي فلأذهب باكراً فأشاهد هناك نشرة الأخبار وأنتظر، فإذا نقلها، نقلها. وإذا لأ… أعود إلى البيت.
تحلّقنا حول شاشة التلفاز الصغيرة، وبدأنا بسرد الطلبات على أحمد الساقي: واحد قهوة، 2 شاي، نفس معسّل. طلبت أرجيلتي المفضّلة (عجمي) بلا نبريش (نبريشي معي دوماً Built-in)، ثمّ رحنا نتجاذب أطراف الحديث وسفسافه كالعادة. وفيما كنّا نسترق السمع إلى نشرة الأخبار ونتناوش في التعليق عليها والتعقيب، ظهرت صورة حاكم مصرف لبنان بين رفوف حديدية في غرفة تشبه القبو. لكنّه قبو مرتّب “مهفهف” غير شِكل.
منذ فشلت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي المستقيلة في نقل مباريات “مونديال قطر”، رحت أقصد مقهى بيروتيّاً قديماً كنت أتردّد إليه منذ مدّة، ويجمع ثُلّة من أبناء الأحياء المجاورة
للوهلة الأولى ظننت أنّ الحاكم التقط الصورة في أحد فروع “أفران شمسين”: رفوف برتقالية عونيّة وعوارض زرقاء تحاكي ألوان التسوية الرئاسية بين “التيار الوطني الحر” و”تيار المستقبل”. ظننتها رفوفاً للحفاظ على ربطات الخبز “طازه”، لكن بعدما أمعنت النظر وميّزت بين الألوان التي جعلت المشهد يختلط عليّ، اكتشفت أنّ الأصفر ليس خبزاً وإنّما سبائك ذهب ضخمة، فهرعنا إلى رفع صوت التلفاز حتى نفهم ما هي الرسالة التي يريد الحاكم إيصالها من تلك الصورة.
صمت الجميع برهة، وبعدما استدركوا الموقف فهموا أنّ سلامة يؤكّد وجود الذهب في مصرف لبنان وجرده على يد شركة أجنبية أكّدت تطابقه مع الأرقام المعلنة، ثمّ بدأت الموشّحات.
تنطّح أبو أندريه وقال: “الله يرحمك يا الياس سركيس… لولاك ما كنّا شفنا شي منّو”.
ثمّ أعقبه أبو موريس بردّية أخرى: “مش المهم مين جابهم. المهم مين حافظ عليهم يا أبو أندريه”.
فأردف أبو عباس ابن الخندق الغميق كلام أبي موريس بردّية مضادّة: “لا حبيبي المهم تتذكّر منيح مين حافظ على يلي حافظ عليهم… محسومة هيدي”.
أمّا أبو رضوان ذو الخلفيّة “الممانعتيّة”، فأخذته مخيّلته إلى مكان أبعد: “يا ويلي… هول إذا منعطيهم للقرض الحسن قديش مناخد عليهم دولارات؟”.
ثمّ وصل الدور إلى أبي خالد (قحّ من أقحاح المصيطبة) الذي صرخ بالجميع قائلاً: “قوم أنت وإياه… هيدا الحاج رياض أبو الدهب. هيدا الزلمي من حصة بيروت لأنّو مقرّ مصرف لبنان ضمن نطاق بلدية بيروت… الله يرحمك يا شيخ رفيق”، ثمّ أردف حديثه بجزء من سورة من التنزيل الحكيم ليضفي على مداخلته شيئاً من المشروعية: “والذين يكنزون الذهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم”.
لم أفهم ما علاقة ذاك الجزء من الآية الكريمة بمشهديّة سلامة داخل القبو، لكن يبدو أنّ أبا خالد وغيره من الموجودين يتحيّنون الفرصة لتسييل تلك “الدهبات”.
هنا قاطعه أبو عباس مجدّداً: “ههههههه… قديش فيك تصمد بشارع الحمرا؟ ما شفناكم بـ7 أيار يا فهود!”.
أمّا أنا فضحكت في سرّي بعدما تيقّنت أنّ موزّع “السطالاي” لن يمنّ علينا بمشاهدة المباراة، واكتفيت بتلك المباراة التي شاهدتها Live وبتقنية HD في تلك الليلة.
إقرأ أيضاً: أين الجهْل العوني من الجاهل؟
لففت نبريج الأرجيلة حول السبع وهممت بالرحيل. فهبّ الجميع متوجّهاً إليّ بالقول: “لوين رايح؟ بعدو بكير أبو زهير… شو بِنا؟”.
التفتّ إليهم ورمقتهم رمقة ممزوجة بالحزن والشفقة والغضب، ثمّ قلت لهم: “اعتقوني كرامة للنبي… خلّيكم عم توزعوا التركة يا عكاريت”.
*ملاحظة: عكاريت مفردها عكروت وتستخدم لدى العرب للتعبير عن المكر والخداع. أمّا في لبنان فمعناها باللغة الدارجة بذيء والعياذ بالله… وهذا ما لا نقصده، فاستغفروا الله لي ولكم، ويا فوز المستغفرين.
*هذا المقال من نسج خيال الكاتب
لمتابعة الكاتب على تويتر: abo_zouheir@