مرّت اليوم سنوات سبع على وفاة صباح في 26 تشرين الثاني 2014، وكانت الثلاث الأخيرة منها عجافاً على لبنان، ولا تلوح في أفقه بداية خروج من هذا النفق المعتم.
الواقع وصوره السعيدة
صباح المولودة في 10 تشرين الثاني 1927 بوادي شحرور، القرية المسيحية على المنخفض الساحلي لجبل لبنان الجنوبي وقراه، هي ابنة ريف لبنان الجبليّ أو الجرديّ والساحليّ، ذي نمط العيش البلديّ البسيط المتقشّف، والفنون الشعبية، من مواويل وعتابا وميجانا وزجل ودبكة… في زمن البطء القديم ومواسم الزرع وحصاده وأعياده، ولقاءات صبايا جرار الماء الفخّارية والشبّان قرب ينابيع القرى في عشيّات. وقد تحوّل هذا كلّه صوراً فولكلورية سعيدة لا يبرأ منها هذا الوصف.
فلبنان الواقع اجتاحته صوره الفولكلورية السعيدة وتشبّثت بتاريخه الحديث الراسخ والمتداوَل في ذاكرة أهله العامّة، حتى في زمن الحروب والدمار، حتى ليبدو أن لا تاريخ في ذاكرة اللبنانيين لبلدهم وأمزجتهم إلا تلك الصور السعيدة التي تُستعاد وتتناسل الحنين إليها كلّما تعرّضت للكسر وهشّمتها الوقائع والحوادث القاسية.
مرّت اليوم سنوات سبع على وفاة صباح في 26 تشرين الثاني 2014، وكانت الثلاث الأخيرة منها عجافاً على لبنان، ولا تلوح في أفقه بداية خروج من هذا النفق المعتم
دلع لبنانيّ في القاهرة
صباح صوتٌ ووجه وأدوار وأوقات من زمن لبنان وبيروت والقاهرة في أربعينيات القرن العشرين وخمسينياته وستّينياته، أيّام كانت العاصمة المصرية عاصمة صناعة نجوم الفنّ والغناء والسينما والصحافة في دنيا العرب.
في صوت صباح الشمسيّ شمسٌ، هي شمسُ لبنان البهيّة الساطعة، بعد مطر ربيعيّ، على الأعالي والتلال والشطآن، عندما كان في لبنان متّسع للاستمتاع بشمس الأعالي والروابي والشطآن. صوت شمسيّ نقيّ طالع من تفّاح لبنان، شمسه وثلجه وماء ينابيعه.
في صوت صباح ووجهها الشمسيّين شيء من البرونز الليّن أو النِيء. برونزٌ أشقر اللون تشَرّبه صوتُ جانيت فغالي منذ ولادتها في وادي شحرور، ما بين الجبل والساحل، في القرى المسيحية التي أخذت البهجةُ أهلَها، العامّة من أهلها، بعد خروجهم من مآسي الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) وويلاتها، فلم يتوقّف كثيرون منهم عن الهجرة إلى بيروت وأميركا. وفيما كانت بعض نخبهم التي هاجرت إلى مصر فراراً من العسف العثماني تعود إلى ديارها لتباشر زمناً لبنانياً جديداً في دولة لبنان الكبير الناشئة، راحت كثرة من أهل المواهب الفنّية في الغناء والطرب تقصد القاهرة التي تصنع النجوم.
في أواسط أربعينيات القرن العشرين، عندما هاجرت جانيت فغالي مع والدها من بدادون ووادي شحرور إلى القاهرة، أولى مدن المشرق العربي الكوزموبوليتية المتحرّرة من الزمن العثماني، والمزدهرة فيها فنون الغناء والسينما والمسرح، بعد “تأورُبِها” مع الإسكندريّة بأخلاط الجاليات الأجنبية الكثيرة، حملت الصبيّة الصغيرة صوتها الشمسي ذاك كوجهها، لتبيع في القاهرة ذلك الدلع الشعبي المتفتّح في وجوه صبايا لبنان العامّيّات وأجسامهنّ وأصواتهنّ. وهو دلع تحدّر إليهنّ من مزيج التقاء “الحضارة” الجبلية بالريف الساحلي. دلع أو غنج شعبيّ ساذج، بدائيّ في فجاجته العلنيّة، كتفّاح لبنان المشرّب بشمس الأعالي، بعد سبات الصقيع الشتوي. وهو أيضاً غنج الصبايا الريفيّات المسيحيّات في مواسم الحرير، المفتونات بتجّار الحرير الجُدد المتنقِّلين بين قرى الجبل ومدن الساحل.
لهؤلاء غنّت “شحرورة الوادي”: “إن كان بدّك (تريد) تعشق/ إعشق تاجر بالحرير… يا قلبي كتير/كتير كتير/بدك تنطر (تنتظر) تاجر الحرير”. كانت مواسم الحرير وتجارته قد أفَلَت تماماً، عندما غنّت صباح هذه الأغنية في مطالع الستّينيات اللبنانية المزهوّة برخاء تمدّنها الريفي الساذج، المبتهج ابتهاج النساء وأجسامهنّ بفساتين الدكولتيه الحاسرة عن أكتافهنّ المنتصبة، وعمّا دون الركبتين من الساقين الممشوقتين المنتهيتين بزوج من سكربينات الكعب العالي.
رحلت صباح في مثل هذا اليوم قبل سنوات سبع، فيما كان لبنان يتخبّط في واقعه المرير عارياً من صوره السعيدة. وها هو يتخبّط في الركام بلا صور ولا أمل ولا حنين
البهجة الآنيّة العابرة
لكنّ صباح لا تنتظر، ولا تحبّ الانتظار، على خلاف فيروز التي جعلها الأخوان رحباني نجمة الحزن والانتظار، المرصودة في محراب الحزن والانتظار.
فصباح لم يصنع أحد نجوميّتها، بل هي تُركت عارية، ووحدها وبنفسها ومنفردةً صنعت تلك النجوميّة بين القاهرة وبيروت. ساعدها وساعدتها كثيرون وكثيرات في قاهرة السينما الاستعراضية والغناء في الأربعينيات والخمسينيات أوّلاً، وفي بيروت الربع الثالث من القرن العشرين (1950-1975)، تالياً وفي آن واحد. لكنّها بمفردها وحرّة ربّما مشت تلك الطريق وفي ضجيجها الصاخب وصورها اللاهية.
في صوت صباح شيء من فجاجة تفّاح الجبل النديّ، المتلألئة على فجاجته حُبيبات الندى البلوريّة في شمس الصباح المنتشية بالسذاجة الريفية والفضيحة الريفية في المدينة التي لا تزال مفتونة بالريف. صوت من التفّاح، من فضيحة التفّاح والندى والشمس والحرير. من صفاء الماء الصخري، المنبثق من الصخر عارياً، فجّاً، جريئاً في عريه، من دون أن يخفي شيئاً، ولا يخجل من شيء. ولا حتى من دعوته الأنثوية الفجّة، الصريحة، العارية، اللاهية، المقهقهة عالياً في طلب المتعة والانتشاء بالدلع العاري، وفي تقاسم المتعة والنشوة العابرتين مع آخرين. صوت يندلق، لا من عمقٍ ولا من داخل ولا من سرّ، بل من البهجة الآنيّة العابرة المتجدّدة، أنانيّةً وغيريّة في وقت واحد، وبلا تمييز. بهجة تحتفي بنفسها، لا لتخفي الألم، بل لتنبذ الألم والحزن. بهجة عموميّة مجّانيّة لا تنضب، ولا يعتريها خوف من النضوب.
الحياة كما في فيلم
من ذلك الصوت الشمسيّ المغناج وُلدت صباح، وُلدت شخصيّتها النجومية، وجهها، جسمها، وأدوارها السينمائية، حينما كانت السينما تمثيلاً وأداءً خارجيَّين أقرب إلى الاستعراض والزهو بالأزياء والابتهاج الاحتفاليّ بها، من دون تمييز بين الأدوار والصور والحياة والسينما.
هي قالت إنّها تزوّجت رجالها الكثيرين كما يتزوّج الممثّلون في الأفلام. لذا يمكن القول إنّها عاشت حياتها كلّها، كأنّها في فيلم.
كأنّ صوتها الشمسيّ المغناج من صنع حياتها وشخصيّتها وقدرها النجوميّ، التي أخذتها إلى القاهرة، إلى السينما، إلى رجالها الكثيرين.
إقرأ أيضاً: عن السفر.. والخروج من “الغثيان اللبناني”
صوتها هو حقيقتها وطبعها، في زمن كانت الأصوات فيه تُعطى من الطبيعة البكر، وتطلع من الطبيعة البكر. وكانت الأصوات تَصنع الطبائع، قبل أن يتحوّل الغناء رقصاً وبالصور.
رحلت صباح في مثل هذا اليوم قبل سنوات سبع، فيما كان لبنان يتخبّط في واقعه المرير عارياً من صوره السعيدة. وها هو يتخبّط في الركام بلا صور ولا أمل ولا حنين.