حكاية “بنك البركة”: نهاية أوّل مصرف في لبنان

مدة القراءة 8 د

قبل أيام، فاجأ مصرف لبنان اللبنانيين بقرار وضع يده على “بنك البركة”. لكنّ القرار لم يُفاجىء إدارة البنك اللبنانية ولا حتى تلك الخارجية، التي كانت تعلم بأنّ فرع بنكها في لبنان ربّما سيلقى هذا المصير، نتيجة سلوك إدارته اللبنانية، ونتيجة الأفق المسدود الذي وصلت إليه المفاوضات بين إدارة مجموعة “بنك البركة” والمصرف المركزي.

تقول المعلومات إنّ مصرف لبنان وجّه إنذاراً للبنك منذ نحو سنة، وحذّر إدارته من مغبّة الاستمرار في قراراتها التعسّفية لناحية رفض تطبيق تعاميمه، وخصوصاً التعميم 158 الذي يقضي بدفع أموال المودعين (400$ فريش و400$ بالليرة اللبنانية)، إلّا أنّ إدارة البنك لم تلتزم واستمرّت بالتعسّف والتسويف وصولاً إلى قرار وضع اليد. وهو ما يُظهره الكتاب الموجّه من مصرف لبنان إلى إدارة “بنك البركة” في الثامن من الشهر المنصرم، الذي يؤكّد أنّ البنك لم يلتزم بتعاميمه رقم 44 و94 و154، ولم يقدّم خطة لمعالجة أوضاعه ضمن المهلة الممنوحة له من الهيئة العليا للمصارف.

كيف يردّ فرع بيروت؟

يقول مصدر عليم بتفاصيل ما كان يجري داخل “بنك البركة” لـ”أساس” إنّ سبب وصول البنك إلى ما وصل إليه يعود إلى اتّخاذ إدارة المجموعة في البحرين قراراً يقضي بسحب يدها من فرع لبنان كليّاً ورفض مساعدته منذ بداية الأزمة الاقتصادية.

لكنّ هذه المعطيات ترفضها إدارة البنك في بيروت، ويقول مصدر رسمي فيها، طلب عدم نشر اسمه، إنّ “المجموعة لها أموال بذمّة مصرف لبنان، أودعتها لديه بعد الأزمة الاقتصادية بموجب تحويلات من الخارج، وهذه الأموال لم تكن توظيفات شأن المصارف الأخرى، لأنّ البنك إسلامي، ولا يعترف بهذا النوع من الأعمال المحرّمة شرعاً، بل هي أموال كانت بمنزلة وديعة وضع مصرف لبنان يده عليها من دون وجه حقّ، واحتجزها، ويرفض اليوم تحريرها”.

لكن بخلاف هذا الكلام، علم “أساس” من مصادر داخل البنك أنّ الإدارة في البحرين اتّخذت قراراً حاسماً بوقف مساندة فرع لبنان بعد الأزمة، بدليل إقفال عدد من الفروع، التي تقلّصت من 9 إلى 3 فروع فقط، نتيجة الخسائر التي كانت تتكبّدها.

يضاف إلى هذا سبب آخر يخصّ سلوك الإدارة في بيروت، وتحديداً سلوك المدير العام الحالي معتصم محمصاني والمجموعة اللصيقة به من مديرين ورؤساء أقسام. إذ تؤكّد المعلومات أنّ الإدارة في البحرين تلقّت العديد من الشكاوى ضدّ المدير العام، لكنّها لم تلتفت إلى هذا الكلام ولم تحرّك ساكناً، وهو ما فسّره البعض بأنّه كان إشارة صريحة إلى قرارها المسبق بترك فروع لبنان تواجه مصيرها، وذلك بخلاف الحجج التي ساقتها المجموعة في بيانها الصادر بعد قرار مصرف لبنان وضع اليد.

 

أمّا الأسباب التي دفعت الإدارة في البحرين إلى إصدار بيانها الأخير، فتردّها المصادر إلى اثنين:

1- حرص المجموعة على حماية اسم علامتها التجارية “بنك البركة”، باعتبار اسم البنك والـLogo هما نفسهما في لبنان وفي كلّ الفروع المنتشرة في الدول العربية والعالم، ولذلك تريد أن تقذف المشكلة إلى حضن مصرف لبنان، باعتباره الجهة المسؤولة عن تشويه سمعة البنك خارجياً.

2- امتعاض إدارة المجموعة من مصرف لبنان بعد رفضه التفاوض على أموال المجموعة وأصولها المحتجَزة لديه، من أجل صياغة خطة لتعافي البنك، إضافة إلى رفض مصرف لبنان استحواذ المجموعة على عدد من أقسام عقار فرع “بنك البركة” الرئيسي. إذ تشير المعلومات إلى أنّ المجموعة كانت بصدد شراء عدد من الطوابق في مبنى البنك في منطقة الصنائع، لكنّ “المركزي” رفض هذا الأمر بسبب سوء التخمين والشبهات بمحاولة تسييل هذه الموجودات وتهريبها إلى الخارج.

وكانت مجموعة “البركة” ندّدت في بيان بقرار مصرف لبنان تعيين مدير مؤقّت لبنكها، وقالت إنّه “قرار مجحف لمعاقبة المصارف”، واتّهمت المصرف المركزي بـ”الإخفاق في توفير خطة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي”، وأكّدت أنّها “تدرس اتّخاذ إجراءات قانونية” ضدّ مصرف لبنان ردّاً على قراره، بعد منع المجموعة من “الوصول إلى أصولها” المودَعة لديه والتي من شأنها أن تمكّن المجموعة من “استئناف أنشطتها المصرفية العاديّة”.

فضائح المدير العامّ

تشير المعلومات إلى أنّ المدير العام محمصاني وبعد فُضّ اجتماع مجلس الإدارة مع المدير الجديد شربل عبد الله مبارك، الذي عيّنه مصرف لبنان مؤقّتاً، وكُفّت يد الإدارة ومحمصاني عن البنك، جمع الأخير المديرين ورؤساء الأقسام وقال لهم بالحرف: “أترككم لمصيركم مع مصرف لبنان… أنا ذاهب لأنفخ النرجيلة”.

تلفت المعلومات إلى الكثير من الارتكابات التي وقع فيها محمصاني خلال إدارته البنك منذ عام 2006، ومنها أنّه حوّل صهره بين ليلة وضحاها من “زبون مفلس ومديون” للبنك، إلى مدير أحد الفروع، لكنّه استقال قبل فترة. تُضاف إلى ما سلف اتّهامات بأنّه غطّى تزوير مستندات مصرفية وكشوفات حسابات موقّعة ومختومة من البنك لعملاء ليسوا زبائن منتظمين، وقد أعطاهم “كشوف حسابات” مزوّرة ليستعملوها في تقديم طلبات هجرة وسفر إلى الخارج إلى سفارات تطلب هذا النوع من المستندات للموافقة على إعطاء تأشيرات دخول، علاوة على فضيحة تتعلّق ببيع البنك بعد الأزمة مشروعاً عقارياً كاملاً يملكه في منطقة فردان بموجب شيكات مصرفية بالـ”اللولار”، أي بأوراق بلا قيمة، مكبّداً البنك خسائر فادحة، وبالطبع لقاء عمولات خيالية “من خارج السيستيم”. وكان كلّ عضو في مجلس الإدارة يحصل على “جائزة” قدرها 2,000 دولار كاش حين يحضر الاجتماع الدوري. وكانت هذه الأموال تُهدر من الودائع المحجوزة في البنك، ويُحرَم منها الموظّفون الذين عانوا أخيراً تقصيراً في دفع رواتبهم. إذ تشير المعلومات في هذا الصدد إلى أنّ الشهر الماضي لم يحصل كلّ موظف إلاّ على 160 دولاراً “فريش”، فيما بقيّة رواتبهم بقيت عالقة، نتيجة تهديدهم بوقف العمل، ولم يفرج عنها محمصاني حتى بعد تقديم الموظّفين كتاب اعتذار موقّعاً ممن تغيّبوا عن العمل فرداً فرداً.

تواصل “أساس” مع المدير العامّ وسأله عن هذه المعلومات، في سياق إعطائه “حقّ الردّ” المهنيّ، لكنّ إجاباته لم تكن على قدر حجم التُهم

تكشف المعلومات أنّه بعد قرار وضع اليد، طلب محمصاني نسخ ملفّات لم تُعرف طبيعتها بواسطة USB، فارضاً في الوقت نفسه تعديلَ “البروتوكولات” الخاصّة بالدخول إلى الملفّات من أجل الحصول على مراده، على الرغم من كفّ يده عن إدارة البنك. وأخرج محمصاني والمديرون المقرّبون منه جميع أموالهم في الحسابات بموجب شيكات مصرفية من أجل تصفير حساباتهم قبل “الانهيار الكبير”.

كيف ردّ محمصاني على “أساس”؟

تواصل “أساس” مع المدير العامّ وسأله عن هذه المعلومات، في سياق إعطائه “حقّ الردّ” المهنيّ، لكنّ إجاباته لم تكن على قدر حجم التُهم. بداية ردّ بأنّه غير مخوّل الحديث نيابةً عن المجموعة، وأنّها هي الجهة الصالحة لسؤالها عن البنك. وحينما أكّدنا له أنّ ثمّة تُهمٍ تتعلّق بسلوكه وبممارساته خلال إدارته للبنك، وفصّلنا له المعلومات، اكتفى بجملة كرّرها عند كلّ سؤال، وهي: “كلّ هذه تهم وقيل وقال… من أعطاكم هذه المعلومات فليعطِكم الإثباتات التي تؤكّد هذا الكلام”، متلطّياً تارة خلف مجلس الإدارة الذي “وافق على كلّ هذه القرارات”، فيما يُعتبر هذا المجلس “في جيب محمصاني”، وتارة أخرى خلف “السرّية المصرفية التي تحتّم عدم البوح بتفاصيل كهذه”.

أكّد مصدر مطّلع على سيرة البنك المذكور لـ”أساس” أنّ فرع بيروت من “بنك البركة” يسجّل خسائر منذ مدّة طويلة حتى قبل الأزمة الاقتصادية، لكنّ مالك المجموعة ومؤسّسها الشيخ صالح كامل أصرّ على بقاء البنك ودعمه على الرغم من الخسائر بسبب حبّه للبنان. لكن بعد وفاته آلت المجموعة لولده عبدالله صالح كامل، الذي لم يكن متحمّساً لدعم فرع المجموعة في لبنان نتيجة خلافات عصفت بين لبنان ودول الخليج على خلفيّة سلوك السلطة المتأثّرة بـ”حزب الله”، فأعلن مذّاك أنّ “كلّ فرع يحقّق خسائر سنتّخذ قراراً بإقفاله”.

إقرأ أيضاً: بين باسيل والمعارضة وواشنطن… هل طارت الكهرباء؟

وقد أجرى رئيس المجموعة حمد عقاب أكثر من اجتماع مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة قبل مدّة، وكان آخر اجتماع بين عقاب والحاكم قبل قرار وضع اليد بأيّام قليلة. وكانت المفاوضات وصلت إلى حائط مسدود للأسباب التي ذكرناها آنفاً، ويجري اليوم التسويق لرواية مفادها أنّ مصرف لبنان “جرؤ على المسّ ببنك أجنبي”، للإيحاء بأنّ وضع اليد كان من باب الاستهداف السياسي. وهذا غير صحيح طبعاً لأنّ المركزي (بصرف النظر عن موقفنا منه) سبق أن اتّخذ إجراءات مشابهة بحقّ أكثر من بنك لبناني، وهو بصدد استكمال هذه الإجراءات بحقّ مصارف إضافية، بحسبما تكشف المعطيات.

لمتابعة الكاتب على تويتر: emadchidiac@

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…